التهمة: "وطني"!

عندما نتحدث عن ممارسة النشاط السياسي على المستوى الشعبي وغير الرسمي، فإننا كثيراً ما نقول إن فلاناً كان منخرطاً أيام شبابه في "العمل الوطني"، وهو تعبير ارتبط بالنشاط السياسي المحظور الذي كان يمارسه طلبة المدارس والجامعات والمثقفون وغيرهم "تحت الأرض" في ظروف الانغلاق. وكانت هذه الصفة: "وطني"، كفيلة بالذهاب بصاحبها إلى ما وراء الشمس.

اضافة اعلان

وقد نبهني إلى هذا الموضوع صديق صدوق حدثني عن تجربة مرّ بها شخصياً أيام زمان، حين كان طالباً يافعاً وشارك في إحدى التظاهرات. ولمّا قاده حظه إلى أن يكون من بين المعتقلين ووقف أمام المحقق من دون سجل "سوابق"، ولم يستطع الأخير أن ينسبه إلى أي من التنظيمات السريّة المعروفة آنذاك، أمر كاتب المحضر بأن يكتب في سجله: "وطني"!

ذكرتني هذه العبارة بواقع الحال المشترك الذي سجله الشاعر المصري الشعبي أحمد فؤاد نجم في قصيدته "بيانات على تذكرة مسجون"، والتي يقول مطلعها: "الاسم: صابر/ التهمة: مصري..!".

والموضوع يحتاج، كما هو واضح، إلى وقفة تأمل كبيرة، لأنه موضوع كبير جداً، ويكشف عن اختلال هائل في المفاهيم، واختلاط مفزع جاء حصيلة طبيعية للتخبّط المزمن في تشخيص مفهوم "السياسة"، واعتبارها مقسومة إلى جزأين: واحد مشروع، من غير اسم، تزاوله المؤسسة السياسية الرسمية، وواحد "وطني" غير مشروع أو مكروه تمارسه المعارضة الشعبية.

يعني تشخيص هذه الجهات المختلفة لمفهوم "الوطني"، وبكل وضوح، أن المؤسسات السياسية الرسمية في الوطن العربي تنكر عن نفسها "تهمة" الوطنية، وتنعم بهذه الصفة (ووصف "النعمة" هنا حقيقي) على المعارضين والمغضوب عليهم، وكأن أحد متطلبات المواطنة المخلصة وشرط صدق الولاء للوطن أن يصرخ الواحد بعلو الصوت: "أنا، والله، مش وطني". لاحظوا المفارقة؟!

إن المسؤول عن هذا التوصيف غير الطبيعي والمفارق للمنطق، بل المخجل حقاً، هو هذا الفرز الدائم والغريب للناس على أنهم إما مخلصون، أي أنهم يتشاركون جميعاً وجهة نظر واحدة أحَدية مقدسة لا تقبل النقض، أو هم خارجون "وطنيون" ملاعين، و"ثورجيون" يثيرون الشغب ويقولون شيئاً مغايراً أقل ما يوصف به هو الخيانة، إن لم يكن الكفر.

والصورة الناجمة، مسطحة ومقسومة بحدة إلى لونين فقط: أبيض وأسود، من دون الروعة التي ينطوي عليها قوس قزح أو تنوع ألوان الطيف، بل في الحقيقة لون واحد سائد.

أما من غير مجازات، فإن الناتج العملي الخطر هو أن يتحول تبرؤ الناس العفوي من صفة "الوطنية" إلى إحساس حقيقي بوجاهة ومسوغات هذه البراءة، وما يصاحب ذلك من شعور بالاغتراب والتغريب، والاضطرار إلى السير الحذر وتحسس الرأس إلى جانب السور، والانحناء الدائم للعاصفة الدائمة، أو التحرك الآلي على طريقة القطيع، و"حط راسك بين هالروس".

ليس هذا هو ما يستحقه إنساننا ولا هو الذي ينبغي أن يريده أيّ منا. وهل ننكر حبنا الخاص والسري لأحد أبنائنا إذا كان مشاكساً وصاحب رأي وشخصية، حتى ولو أتعبنا قليلاً؟

ربما يكون الوقت قد حان لأن نعاود تأمل صفة "الوطنية" ونعيد لها معناها الطبيعي والمنطقي الذي يعنيه الانتساب إلى كلمة "الوطن" لفظاً ومعنى.

أول العلاج هو أن نعترف بأننا جميعاً، في كل موقع، وطنيون بنفس المقدار، وأصحاب حق في قول ما نعتقد بأنه في مصلحة الوطن من وجهة نظرنا، لأن تعدد الآراء والأصوات يفتح النوافذ والأبواب على رؤى وألوان جديدة، ويستبدل الصوت الرتيب المفرد، بالقيادة الأوركسترالية البارعة، بهارمونيا رائعة من الأصوات التي تؤدى على طبقات مختلفة، وبتناغم ساحر مع ذلك.

إننا في حاجة حقيقية إلى مراجعة هذا المفهوم، أعني الوطنية، بجدية وعلى مستوى الثقافة والاستراتيجية، لأنه لا ينبغي بأي حال أن تكون "التهمة: وطنيا"!

[email protected]