التوتّرات الأميركية-الإيرانية يمكن أن تقوض السلام الهشّ في العراق

Untitled-1
Untitled-1

رانج علاء الدين* - (معهد بروكينغز) 23/5/2019

تتصاعد التوتّرات بين الولايات المتحدة وإيران بسرعة، خصوصاً بعد إرسال سفن حربية أميركية ردّاً على تهديدات، بحسب ما أوردت التقارير، من إيران ووكلائها ضدّ القوّات الأميركية في العراق. وقد سحبت الولايات المتحدة كلّ موظّفي الحالات غير الطارئة من سفارتها من العراق، وزاد هجوم بالهاون شنه وكلاء إيران في بغداد مؤخراً وأصاب المنطقة المحيطة بالسفارة الأميركية من احتمالات نشوب صراع في العراق.اضافة اعلان
قد يزداد الزخم المؤدّي إلى الصراع في حال تعرّض موظّفون أميركيون لهجوم أو في حال شنّت الولايات المتحدة ضربة وقائية ضد الميليشيات الشيعية في العراق أو في أماكن أخرى في المنطقة. وقد ينتهي الأمر بالعراق وقد وقع ضحية لصراع محتمل. ويشكل البلد الذي أنهكته الحرب مسرحاً مهماً لصدّ النفوذ الإيراني. وبعض أقوى المجموعات الوكيلة لإيران في المنطقة هي مجموعات عراقية شحذت تفوّقها الميداني ضد القوّات الأميركية بعد اجتياح العراق في العام 2003 وخلال الصراعات الطائفية بين العرب السنّة والشيعة في العراق.
ومن شأن صراع بين الولايات المتحدة وإيران على الأراضي العراقية أن يؤدّي في حال اندلاعه إلى تقويض توازن سياسي دقيق برز منذ انتخابات العام الماضي ومنذ الهزيمة الميدانية لتنظيم "داعش". وتأتي التوترات الأميركية-الإيرانية في أسوأ الأوقات. فما يزال التوافق على تشاطر السلطة ضعيفاً وهشّاً لدرجة أنّ تقويضاً مهمّاً يمكنه أن يؤدّي إلى انهيار سياسي في بغداد.
وسيؤدي انهيار كهذا بشكل شبه أكيد إلى اصطدامات طاحنة في بيئة سياسية ما تزال تطغى عليها سياسات يتعارك فيها الفرقاء، والتي يشكل فيها ربحُ فريق خسارة لفريق آخر، أو التي يمكن أن توصف بأنّها بيئة حرب أهلية. وقد بدأت معالم الأمور تتبلور؛ حيث أطلق رجلُ الدين النافذ مقتدى الصدر، الذي يقود ميليشيا خاضت معارك مريرة مع وكلاء إيران، تحذيراً واضحاً مفاده أنّ أيّ محاولة لجرّ العراق إلى صراع أميركي-إيراني هي أشبه بإعلان حرب على العراقيين كلّهم.
ينبغي على الولايات المتحدة أن تفهم ضخامة الأزمة التي يمكن أن يواجهها العراق في حال أدّى اصطدام مع إيران إلى إقحام وكلاء إيران. فقد يفضي ذلك إلى سلسلة من التداعيات غير المتعمّدة وتأثيرات من الدرجة الثانية قد تؤدّي إلى سفك كبير للدماء في الداخل وصعود تنظيم "داعش" من جديد وإعادة إحياء الصراع الطائفي. وسوف يولّد اضطراب عنيف كهذا بيئةً تتيح النمو لوكلاء إيران.
لمحة عن الميليشيات الشيعية في العراق
رسّخت مجموعات الميليشيا الشيعية في العراق، على غرار كتائب حزب الله وحركة النجباء وعصائب أهل الحق، نفسها كجهات فاعلةً عبر-وطنية قوية تتخطّى طموحاتها وقدراتها القتالية حدود العراق بكثير. فكان لبعضها دورٌ محوري في انتصارات نظام الأسد في سورية مثلاً.
ولذلك، يجب أن تنطوي أيّ مواجهة أميركية محتملة مع إيران على استراتيجية تضمن بيئة سياسية عراقية مواتية عقب المواجهة، والتي تزيد من النفوذ الأميركي في العراق وتحرص على عدم تقوية نفوذ إيران في المستقبل.
يشكل وكلاء إيران في العراق أكثر من مجموعات ميليشياوية وأكثر من مجرّد وكلاء إيرانيين. إنهم جهات فاعلة غنية بالموارد وراسخة في النظام السياسي العراقي إلى حدّ كبير. وهي تشارك في الانتخابات ولها مقاعد نيابية، ولمحاربيها تكليفٌ دستوري كعناصر في القوّات المسلّحة العراقية، والذي يؤمّن لهم رواتب من الميزانية الوطنية العراقية.
والأهمّ أنّ المجموعات المتحالفة مع إيران تمتلك قدراً كبيراً من السلاح والتمويل، بما يسمح لها بالعمل بشكل مستقلّ عن الدولة وبمواجهة القوّات المسلّحة التقليدية العراقية عندما تدعو الحاجة. وبعبارات أخرى، تبقى الحكومة العراقية أضعف من إمكانية لجم الميليشيات التي لها القدرة والاستعداد لتحويل العراق إلى منصّة لإطلاق الهجمات على الولايات المتحدة.
الإرث الأميركي في العراق
ليست هذه الدروس جديدة. كانت الولايات المتحدة منذ العام 2011 هي أسوأ عدو لنفسها. فقد وقفت موقف المتفرّج إزاء توسع النفوذ الإيراني في العراق منذ انسحاب جنودها في العام 2011 حينما تركت إدارة أوباما فراغاً سياسياً وأمنياً ملأته إيران على الفور. وعقب الانسحاب، تجيشت المجموعات الميليشياوية من جديد وانضمّت إلى أحزاب مثل حزب الدعوة الإسلامية الحاكم آنذاك، والذي منحها موارد الدولة ومكانة وشرعية أكبر.
وتحت الأنظار الأميركية، همّش رئيس الوزراء آنذاك، نوري المالكي (المدعوم من واشنطن)، شخصيات عربية سنّية قيادية وقمعهم، وكان الكثير منهم معارضين مريرين للتدخّل الإيراني في العراق. كذلك عانى الجيش العراقي من سوء الإدارة والفساد، مما أدّى إلى انهياره عندما استولى تنظيم "داعش" على الموصل في العام 2014.
شكّل بروز "داعش" في العام 2014 الحدث الأبرز في تاريخ الميليشيات الشيعية في العراق؛ حيث ملأت الفراغ الأمني الذي خلّفه انهيار الجيش. وكان لا بدّ من أن تتدّخل الولايات المتحدة في العراق للقضاء على تنظيم إرهابي وحشي، وأصبح لواشنطن وطهران عدوّ مشترك. غير أنّ الموارد والأسلحة الأميركية أصبحت في نهاية المطاف في أيدي المجموعات المتحالفة مع إيران. وعلى الرغم من مساهمة الولايات المتحدة الهائلة في هزيمة "داعش"، فإنها لم تضع سياسات لاحتواء بروز هذه المجموعات على مدى السنوات الخمسة الماضية.
وجدت الولايات المتحدة وإيران نفسيهما في الجانب نفسه مرّة أخرى في أيلول (سبتمبر) 2017. وكان الاصطفاف هذه المرّة ضدّ الأكراد، الذين لطالما كانوا حلفاء للولايات المتحدة. وقد عارض كلا البلدين استفتاء الاستقلال الكردي، لكنّ إيران كانت الدولة المستفيدة من التصدّعات المحلية والإقليمية الناتجة عن ذلك، فاستغلّت التوتّرات بين العاصمة الكردية إربيل وبغداد لتخلق في نهاية المطاف بيئة لما بعد الاستفتاء والتي تخدم في توسيع نفوذها. وفي المقابل، لم تحاول الولايات المتحدة أن تتوصّل إلى تسوية بين إربيل وبغداد، وأصبحت مجرّد مراقب للسياسات التي تلت، لا بل أعلنت بتهوّر أنها لن تُنجد الأكراد في حال أقدمت جهات فاعلة معادية على مهاجمة البيشمركة (أي أنّها أعطت فعلياً ضوءاً أخضر لوكلاء إيران).
وهكذا، بعد شهر تقريباً، نظّمت إيران هجوماً عسكرياً على كركوك، وهي عملية استُخدِمت خلالها دبابات أبرامز الأميركية ضدّ البيشمركة. وكانت كردستان في الماضي جبهة حاسمة لاحتواء إيران، غير أنّ القيادة الكردية تركّز الآن على بناء علاقات بنّاءة مع إيران، وهي جارة قوية فهِم الأكراد أنّ عواقب إغضابها ستكون وخيمة.
ما ينبغي على الولايات المتحدة فعله
تبيّن هذه الأحداث أنّ احتواء إيران يتطلّب تقديراً للحظات العَرَضية التي يمكنها مجتمعة أم فردية أن ترجّح كفّة ميزان القوى لصالح طهران. ولهو من الضروري التعلّم من هذه الأخطاء لتأسيس أرضية تمنح واشنطن أفضلية تنافسية على إيران. على الولايات المتحدة أن تخطّط على المدى الطويل.
يمكن لاستراتيجية سياسية أن تعيد تجييش حلفاء الولايات المتحدة وتساعد على تصحيح أخطاء الماضي. وسوف تكون بلا شكّ استراتيجية صعبة، لا سيما في مراحلها التأسيسية، لأنّ أصدقاء واشنطن يعانون الكثير من الوهن والضعف والضرر، وما عادوا يثقون بالنوايا الأميركية. ولذلك يجب البدء باستعادة هذه الثقة. وما يزال بالأمكان أن يكون أولئك الأصدقاء واجهة أميركية حاسمة، لكنّهم سيكونون أيضاً الضحايا الأوائل الذين يسقطون في حال نشوب صراع.
دفعت السياسة الأميركية الأكثر حربية بإيران ووكلائها إلى الحذر، وأجبرت الجهات الفاعلة على التحدّث مؤخراً بلهجة أكثر اعتدالاً. ويجدر أن ينطوي هدف واشنطن على محورين: خلقُ بيئة سياسية مؤاتية تقمع التصرفات المؤذية التي يقوم بها وكلاء إيران؛ وتمكينُ المجموعات المتحالفة مع الولايات المتحدة وتأمينُ شبكة أمان لها.
ينبغي على الولايات المتحدة أولاً تعزيز موقف رئيس الوزراء عادل عبد المهدي وتقويته ومنع خصومه من محاولة العمل على إسقاطه. ويتطلّب ذلك لجم رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي وحشد تحالف سياسي بدعم من البريطانيين والأوروبيين لمنعه ومنع حلفائه من الاستمرار في تقويض عبد المهدي.
وكان العبادي محظياً في واشنطن ولندن اللتين دعمتاه بقوّة، وجاء ذلك على حساب الاستقرار والفصائل العراقية المتحالفة تقليدياً مع الغرب. ومع أنّ البعض في واشنطن وأماكن أخرى ربّما ما يزالون يؤيدون عودته إلى سدّة الحكم، فإن وقع ذلك سيكون كارثياً على العراق والولايات المتحدة. فقد حلّ العبادي في مرتبة ثالثة مزرية في انتخابات العام 2018، تاركاً خلفه إرثاً سيئاً بسبب حوكمته الرديئة وانعدام الثقة الهائل بالحكومة التي تلت.
وفي المقابل، يلبّي رئيس الوزراء عبد المهدي المصالح الشرعية للمجتمعات التي كانت مهمّشة في الماضي. ويمكن لدور أميركي استباقي وتدخّلي على المستوى السياسي، مدعوم بتهديد التدخّل العسكري الأميركي، أن يساعد على رسم مسار نحو مناخ سياسي في بغداد يفضي إلى إحداث توازن قوى سليم داخلياً، وهو توازن يسمح للحكومة العراقية بموازنة علاقاتها مع الولايات المتحدة ويسمح بإنشاء مؤسّسات قابلة للاستمرار والعمل.
على الولايات المتحدة أيضاً تطوير سياسة مستدامة لتلك الحالات التي يكون فيها حلفاؤها أضعف عسكرياً في وجه خصوم متفوّقين إلى حدّ بعيد، وإنما تكون فيها غير راغبة أم غير قادرة على منح تلك الجهات الفاعلة أسلحةً ثقيلة للدفاع عن نفسها. وفي حالات كتلك التي برزت في كركوك في العام 2017، على الولايات المتحدة أن ترسم خطوطاً حمراء وتطبّقها للحرص على عدم ميل ميزان القوى لصالح إيران. ويعوّل وكلاء إيران أيضاً على فكّ الولايات المتحدة ارتباطها في مرحلة من المراحل. هل ستبقى الولايات المتحدة أم سترحل؟ ومن شأن زيادة أعداد الجنود الراهنة أو التوضيح للأصدقاء والأعداء على حدّ سواء أنّ الولايات المتحدة باقية لوقت طويل أن يترك أثراً كبيراً في طمأنة حلفاء الولايات المتحدة وإبقاء محاولات إيران لتعزيز نفوذها في العراق تحت السيطرة.
تستطيع الولايات المتحدة أن تختار دور المقوّض فتضعضع المجموعات المتحالفة مع إيران وتغرق العراق في الاضطرابات والصراع المسلّح في الأثناء. ولكن ما الغاية من ذلك؟ النتيجة الصافية هي قمعُ المجموعات التي ترغب في أن يتمّ احتواء إيران أو في المقابل الوصول إلى توازن قوى سليم في بلد يتجه بشكل متزايد نحو المدار الإيراني. وهؤلاء هم النخبة السياسية والحركات الاجتماعية والجهات الفاعلة في المدني، الذين يريدون تأسيس بيئة تقلص مساحة الميليشيات والذين استثمروا في إنشاء بيئة كهذه.

*زميل زائر في مركز بروكينغز، الدوحة.