التوكل على الله والصدق صفات المسلم القوي

من وكَلَ أموره إلى اللّه ورضي بما يقضيه له ويختاره فقد حقق التوكل عليه-(أ ف ب)
من وكَلَ أموره إلى اللّه ورضي بما يقضيه له ويختاره فقد حقق التوكل عليه-(أ ف ب)

عمان- الغد- حَثَّ الله عباده المؤمنين على التوكل في مواضع عديدة من القرآن الكريم، وبيَّن سبحانه ثمراته وفضائله، فقال سبحانه وتعالى (وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، وقوله تعالى وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، وقوله جل وعلا، فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ، وقال سبحانه واصفاً عباده المؤمنين في معرض الثناء والمدح إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).اضافة اعلان
وفي السنة المطهرة جاءت أحاديث كثيرة موضِّحة لأهمية التوكل والحضِ عليه، ومن ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه عليه السلام "لو أنكم توكَّلون على اللّه حق توكله، لَرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خِماصاً، وتعود بِطاناً".
قال ابن رجب رحمه اللّه (هذا الحديث أصلٌ في التوكل، وأنه من أعظم الأسباب التي يُستجلب بها الرزق)، فقد قال اللّه عزوجل (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).
والتوكل الصحيح يستلزم من صاحبه أن يُعْمِلَ الأسباب كما قال تعالى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، فجعل التوكل مع التقوى، وهي هنا شاملة للقيام بالأسباب المأمور بها، وهذا المعنى يدل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم، عن أنس رضي اللّه عنه قال: قال رجل يا رسول اللّه! أَعْقِلُها وأتوكل، أو أُطْلِقُهَا وأتوكل؟ قال "اعقلها وتوكل".
فالواجب على المسلم أن يسعى في طلب الرزق ويعمل ويجتهد مع القدرة على ذلك، والسيدة مريم عليها السلام، لم تدع الأسباب رغم أنها مؤيدة من الله، فلما جاءها المخاض عند النخلة، قال الله لها: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فكلي واشربي وقري عينا"، وهذا أمر لها بالأخذ بالأسباب وقد هزت النخلة وتعاطت الأسباب، حتى وقع الرطب وأكلت منه).
وقد ضرب لنا النبي عليه السلام أروع الأمثلة في الأخذ بالأسباب ثم التوكل على الله، ففي حادثة الهجرة من مكة إلى المدينة، مع أن الله وعد نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سيعصمه من الناس، رغم ذلك كله، فقد أخذ عليه السلام بالأسباب، فاتخذ دليلا ليدله على الطريق، واتفق مع راع للغنم يسوق غنمه ليطمس آثار المشي، واتجه جنوبا مختبئا في غار ثور مع أن المدينة تقع شمال مكة، وبعد ذلك كله، يبرز التوكل على الله، فعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه: "إَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حَدَّثَهُ قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ:"يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا".
وقد أخطأ في هذا الباب أقوام، فعوَّلوا عجزهم على التوكل، وتذرَّعوا به، فضيَّعوا من الحقوق والواجبات لأنفسهم ولعيالهم، وقد قال النبي "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يَقُوت".
ولمثل أولئك قال عليه الصلاة والسلام "الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَىْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ".
ومما ينبغي التنبيه إليه أن ضعف التوكل لدى الإنسان إنما ينتج عن ضعف الإيمان بالقضاء والقدر، وذلك لأن من وكَلَ أموره إلى اللّه ورضي بما يقضيه له ويختاره، فقد حقق التوكل عليه، وأما من وكل أموره لغير اللّه، وتعلق قلبه به، فهو مخذول غافل عن ربه جل وعلا. 
* الصدق محمدةٌ في الدنيا والآخرة
يقول الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)، وقال صلى الله عليه وسلم "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا".
ومعنى الحديث "أن الصدق يهدي إلى العمل الصالح الخالص من كل مذموم، لذلك كان موصلا للجنة، وأما الكذب فيوصل إلى الفجور، وهو الميل عن الاستقامة، وقيل "الانبعاث في المعاصي".
فالحديث بين أن الصدق مع البر، والكذب مع الفجور، فالإنسان قد يكذب ويتساهل في الكذب ثم يؤدي به إلى الفجور وإذا أدى به إلى الفجور أوقعه في خصال أقبح من الكذب، ومبدؤها هو الكذب، والكاذب لا ثقة فيه ولهذا كان من خصال المنافق، كما جاء في الحديث عن خصال المنافق "وإذا حدث كذب".
إن صفة الصدق ليست نفلًا ولا خيارًا، إنها فريضةٌ على المسلم، وسجيةٌ للمؤمن، والذي يجب أن يكون باطنه وظاهره سواء في الصدق والوضوح، والطهارة والصفاء.
ومع بساطة هذه الصفة وإجماع الخلق عليها، إلا أننا اليوم أحوجُ ما نكون إلى التواصي بالالتزام بها في خِضَمّ أزمة الأخلاق التي يُعانِي منها الكثير لأسبابٍ يأتي في مُقدَّمِها: ضعفُ الإيمان، وضعف التربية، والتهافُتُ على الدنيا.
الصدق محمدةٌ في الدنيا والآخرة، وعلامة التقوى، وسببٌ لتكفير السيئات، ورفعة الدرجات، وكل ذلك مجموعٌ في قول الله - عز وجل -(وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ).
وقد قال الله تعالى مادحا المؤمنين بسبب صدقهم مع الله "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ"، وأما في يوم القيامة، يوم الحساب فاسمع قول الله تعالى (قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
أخي المسلم، أختي المسلمة، هل عودنا أبناءنا على الصدق، هل التزمنا الصدق في حياتنا فتشرّبه أبناؤنا، أم أهملنا هذا الأمر،
هل علمت ابنك الصغير أن ما يفعله يعتبر كذبا غير جائز، أم ضحكت له حينما كذب أمامك، فظن أن الكذب مروءة.
هل تعلم أنك إن قلت لطفل صغير تعال عندي وأعطيك ما في يدي، ولم يكن في يدك شيء فقد كذبت، فعن عبد الله بن عامرٍ أنه قال "دَعَتْني أمي يومًا ورسول الله - صلى الله عليه سلم - قاعدٌ في بيتنا، فقالت: ها تعال أُعطِيك، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم : "وما أردْتِ أنْ تعطِيه؟"، قالت: أُعطِيه تمرًا، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "أما إنَّكِ لوْ لم تعطِه شيئًا كُتِبَتْ عليكِ كذِبة"؛ رواه أبو داود بإسنادٍ حسنٍ.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "من قالَ لصبيٍّ: تعالى هاكَ، ثم لم يُعطِه فهي كذِبَة"، فهل علّمت ابنك أن الصدق منجاة، أم علمته أن الكذب ألوان، وأن الكذبة البيضاء لا شيء فيها.
ألم تعلم أن الكذب كان من أبغض الصفات عند النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة - رضي الله عنها " مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْكَذِبِ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَكْذِبُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْكَذْبَةَ فَمَا تَزَالُ فِى نَفْسِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَعَلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً".
وختاماً، اعلم أخي المسلم أنّ من لزِمَ الصدق في صغره كان له في الكبر ألْزَم، ومن اعتصَمَ به في حق نفسه كان في حق الله أعصم، ومن تحرَّى الصدق هُدِيَ إليه وطابَت نفسُهُ، وطهُرتْ سريرته، وأضاءَ قلبُهُ.

د. حسن تيسير شموط
عضو جمعية رابطة علماء الاردن