التيتا الهندية وتقطيع الخضار على طريقة هاراكيري

من أكثر المتع عندي أن أُعدَّ الطعام؛ فالطبخ، إلى أنه منعشٌ للحواس الخمسة كلها ولعدد آخر فوقها، هو علاج للنفس من توتّر الحياة، وتعبيرٌ مني عن حبّي الناسَ والامتنان للحياة بالتواصل مع منتجات الأرض التي نعيش عليها. فعندما أريدُ أن أدعوَ إلى طعامي أقوم بجولةٍ روحيّةٍ في مطبخَيْ أمي وجدتي، أخرجُ منهما إلى باحة الثقافات المتنوعة تنوّع فسيفساء الناس وأعراقهم وألوانهم ومذاهبهم ولغاتهم. وأخطفُ رجلي إلى هذا البلد أو ذاك لآخذ منه وصفةً تصلح لذائقة الضيف، وتعبر عن سعادتي لمروره/ها في حياتي أو إقامته/ها فيها. فأنا أزعمُ أني أطبخُ بحبّ، وهو ما يُسمّى ب"النَّفَس"، وتعينني مخيلتي الشعرية في ابتكار أطباقٍ خاصّةٍ بي.. فما مناسبة هذا الحديث عن الطعام؟اضافة اعلان
من المؤكَّد أنَّ ليس من الدواعي ما يُطعمناه دولة الرئيس ومسؤولون سابقون من مقالبَ لفظيةٍ وعنصريّةٍ وضريبيّة، بل هو أني عثرتُ في تجوالي في اليوتيوب على هذه التيتا الهندية التي تجاوزت المئة عمراً، ولها من الأحفاد جيلٌ خامس، ما تزالُ قادرةً على إعداد الطعام لهم كما لو كانت في الخمسين. وقاعدةً على أرض بستانٍ تؤدي التيتا مهماتها من غسيلٍ للخضار وتقطيعٍ لها ثم إعدادها كما يجب للطبخ في حلةٍ عملاقةٍ أو دستٍ مهيب، وأمامها المواد اللازمة كلها، دون أن تبدو عليها أمارةٌ من أمارات التعب أو الإرهاق. وبرغم أن فمها يخلو من الأسنان إلا أن بقايا جمالٍ غابرٍ تتخايلُ من وراء سنيها المئة، بخدودٍ مرتفعةٍ ولا نانسي عجرم، وابتسامةٍ طيّبةٍ تبثُّها بين الحين والآخر عندما تتذكَّر أنها أمام الكاميرا. أما الساري الذي ترتديه فلا بدَّ أن يكون زاهيَ اللون موشىً بالقصبِ الذهبيّ، وتحته بلوزة تتناسب مع ألوان البهارات التي تضعها بسخاء على الطعام، وخصوصاً مسحوق الفليفلة الحمراء الحارة.
تبدو التيتا بإقعائها في عراء البستان مثل جدة أمجد ناصر في كتابه "فرصة ثانية"، وليس مثل الذئبة التي كانت تشبهها، بل هي بدت لي كعشتار مودرن، لأن التيتا نحيلةُ القدّ وليس لها أوراكٌ ضخمةٌ بِنيّةِ خصبٍ وولادات، مع أنها ما قصّرت في هذا، بينما النقطة الحمراء بين حاجبيها مزدوجة، وثالثة في مقدمة مفرق شعرها الغزير. ويقعي أمام التيتا نوعٌ غريب من السكاكين يشبه شفرة خنجر يمنيٍّ مقبضهُ مغروزٌ في الأرض، منتظراً أن تمدَّ المرأةُ أصابعها بالبصل وأنواع الخضار لتقطعها كما لو كان في كلٍّ من هذه الخضار ساموراي ياباني ممتلئٍ بعزةِ النفسِ، وينوي أن يغسلَ عاره بضربة انتحارٍ هاراكيري.
تذكرني السكينُ الهنديّة تلك، المستلّةُ فكرتها من صخور الطبيعة في انكساراتها الحادة، بفنون تقطيع الخضار التي تتقنها نساء الشرق الأقصى، ابتداءً من سيريلانكا، حيث تُحسنُه المرأةُ بأصابع قدمها اليمنى، إلى فنون الحفر على الخضار والفواكه، مما يجعلني على يقينٍ أن عشتارَ الكبرى كانت قد تجوّلت في الشرق، أدناه وأقصاه، وهي توزعُ مهاراتها في إعداد الغذاء للبشريّة. عشتار التي اخترعت الزراعة واكتشفت قوانينها، ولربما هي التي اخترعت العجلة لتستطيع أن تجرَّ عليها أطفالها في نزهةٍ معرفيّةٍ في أرجاء عالمها البدائيّ.
في مثل هذه التيتا هناك دوماً للإنسانيّةِ أمل!