الثمانيني أبو إصليح.. ذاكرة تتغنى بتفاصيل ويوميات الزمن الجميل

أحمد الشوابكة

مادبا- ما تزال "دكانة" الثمانيني إبراهيم عبد محمود أبو إصليح، التي تتوسط شارع الملك عبد الله الثاني (البترا) سابقاً في مدينة مادبا، صامدة ثابتة راسخة في مكانها، فبين جدرانها وفي كل زواياها ترتسم أطياف صور كثيرة لوجوه مضت، وأحداث تعاقبت على المكان، وجميعها تحمل ذكريات غالية على قلبه، وتدفعه للمزيد من التمسك بدكانه العتيق.اضافة اعلان
"أبو محمد"، يمسك سيجارته "الهيشي" بعد أن لفها بورق "الأتومان"، ونفث سحابة من الدخان، وكأنها تنهيدة بعد معاناة وصبر طويلين امتدا نحو ستين عاما، في أرجاء دكانه وسط روائح الحنطة والبقوليات والجميد والسمن وزيت الزيتون البلدي الذي تربى عليه وأسرته، متحسراً على تلك الأيام، بحسب قوله "أيام زمان طهارة ونقاء واحترام، عكس هذه الأيام".
يتكئ "أبو محمد" في كل صباح أمام دكانه، ينظر بدهشة وحنين للماضي، الذي يحاول مزجه بالحاضر، مؤكدا بالقول "رغم سنين راحت من عمري، ما أزال متمسكاً بهذا الإرث الذي عشت معه، ولن أتخلى عنه"، فالدكان مرت عليه كثير من الحكايات والقصص، وكان أغلبها في حقبة "الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات"، إلى أن تغيرت الأحوال في بدايات الألفية الثالثة، وقد يكون سببها التطور الذي شهدته المدينة.
"أبو محمد" تنقل من "خان يونس" في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي مع والده الراحل وأشقائه، ليتخذوا من مادبا مكاناً لهم بحثا عن الرزق؛ إذ كانت بداية عمل والده في التجارة والزراعة، ليفكر بعد ذلك، بحسب "أبو محمد"، بالانتقال إلى مادبا، وإنشاء متجر صغير لبيع المواد الغذائية في قلب سوق مدينة مادبا القديم الذي يعد عصب الحركة التجارية والشرائية، ليتولى إدارة المتجر.
ويعد "أبو محمد" من أقدم التجار في مدينة مادبا، إن لم يكن أقدمهم جميعاً، وما يزال "دكانه" قائما حتى هذه الأيام، يحمل معه ذكريات الماضي ببساطته وعفويته.
ويتولى ابنه الأصغر توفيق وأحفاده مساعدته على إدارة الدكان الذي يزينه تلفاز قديم ما يزال محتفظاً به وكرسي وطاولة تعود لفترة السبعينيات، بحسب قوله، مضيفا "لي سبعة أولاد، ابني الأصغر توفيق يتولى إدارة الدكان ويساعد أحفادي بعد عودتهم من المدرسة، وهذا ما كانت أتمناه أن يمتهن أحد أفراد عائلتي المهنة التي ورثتها عن أبي رحمه الله، خشية من اندثارها، كونها حاضنة لذكريات المدينة وأهلها".
أما الأيام الماضية فشكلت له ذكريات جميلة، ويصفها أبو محمد بأنها كانت نابضة بالحياة عكس الأيام الحالية؛ حيث كان الناس يتآلفون ويتحابون، فكان الزبائن يستقرضون والسداد عن الموسم من مواد غذائية وملابس وبذار للزراعة وأعلاف المواشي.
وحول البضائع التي كانت تباع في السابق، يقول أبو محمد "كان متجرنا يتجمع به أبناء ووجهاء المدينة".
ويؤكد أبو محمد أن الحركة التجارية في المدينة كانت تتركز في السوق القديم الذي يقترب من موقع السرايا الحكومية القديمة، والتي كانت تسمى "الحكمدارية"، والتي استخدمت مقرا لمحكمة صلح مادبا لفترة طويلة، ثم تحولت إلى مركز أمن المدينة، حتى أصبحت الآن متحفا تابعا لوزارة السياحية، خصوصاً بعد تنفيذ مشروع تطوير وسط المدينة، ومن ضمنه السوق القديم وشوارع المدينة العتيقة، ومنها شارع الملك عبد الله الثاني.
ويستعيد أبو محمد ذكرياته، فيبين كيف كان يبيع القمح والشعير اللذين يشتريهما من مزارعي المنطقة باستخدام مكيال "نص المد" وسعته 12 كيلوغراما من القمح و10 كيلوغرامات من الشعير، وكان يباع القمح للمستهلك بسعر 3-10 قروش لـ"نص المد الواحد".
وأما الحلويات فكانت مصنعة من السكر، وكانت تسمى "حامض حلو"، ومن أبرزها "الكعكبان" الذي كان يباع على شكل صفائح وزن كل منها يساوي أوقية من الرطل الشامي (200 غرام حاليا)؛ إذ كانت تباع القطعة بنصف قرش أو أكثر حسب حجمها، بالإضافة إلى حلويات "الراحة الشامية المعطرة" و"أبو شعر" وهو نوع من "التوفي" و"الحلاوة" و"قمر الدين" و"خسف البلح".
ويضيف "كان السكر يصنع ويباع بأشكال هندسية، فهناك ما هو على شكل مخروط ويسمى "محقان"، إضافة الى سكر "الداش" على شكل مربعات صغيرة، وكان سعر رطل السكر في ذلك الوقت لا يزيد على "6 قروش"، وسروج ولوازم الخيل والدواب التي كان يصنعها أبناء المنطقة". وأما "الكيف" بمعنى القهوة، فكان يصل سعر أجود أنواعها إلى "5 قروش" للرطل الواحد والبهار بالسعر نفسه، وفق أبو محمد، وكان معظم المدخنين يستخدمون دخان "الهيشي" الذي يزرع في المنطقة والدخان الشامي الأشقر.
أما السجائر المصنعة التي كانت تباع فذكر منها "الاتومان"، وتحتوي العلبة التي كانت تسمى بـ"الصفط" على 52 سيجارة وسعرها لا يتعدى العشرة قروش، ودخان "النجاح" و"التطلي سرد" و"السبورت"، وتحتوي العلبة على 20 سيجارة بسعر قرشين ونصف.