الثورة العلمية الرابعة

يربط أستاذ فلسفة وأخلاقيات المعلومات في جامعة اكسفورد؛ لوتشيانون فلوريدي، الثورة العلمية بتأثير العلوم على إدارك الإنسان لذاته، وفي ذلك فقد شهد التاريخ الإنساني أربع ثورات علمية غيرت مفهومنا بشأن من نكون، أي فهمنا لذاتنا؛ أولها على يد نيكولاس كوبرنيكس (1473 – 1543) عندما نشر أطروحته عن حركة الكواكب حول الشمس، واكتشف الإنسان أن الأرض ليست مركز الكون، ليست سوى كوكب يدور حول الشمس، هذه الإزاحة للأرض من مركز الكون أحدثت تغييرا عميقا في وجهات نظرنا تجاه الكون، وأسست لتحول علمي جذري، مانزال نتعامل مع تبعاته ومتوالياته، منها على سبيل المثال الاكتشافات الفضائية وعلوم الفضاء والفلك وتقنيات الأقمار الصناعية، .. وتراجع إيمان الإنسان بمحوريته.اضافة اعلان
وأما الثورة الثانية فقد حدثت في العام 1859 عندما نشر تشارلز داروين (1809 – 1882) كتابه أصل الأنواع مبينا أن سلالات الحياة تطورت على مر السنين من أسلاف مشتركة عن طريق الانتخاب الطبيعي، وهكذا فقد أزيح الإنسان بعد الأرض من مركزيته في الكون وفي المملكة البيولوجية، لكن ظل الإنسان يميز نفسه بالعقل والذكاء! وظل رينيه ديكارت (1596 – 1650) بمقولته الشهيرة "أنا أفكر إذن أنا موجود" يؤسس لدفاع الإنسان عن محوريته في فضاء الوعي، ومكانته الخاصة في الكون، والتي نحددها عقليا وليس فلكيا أو بيولوجيا، وبقدرتنا على التأمل الواعي لذاتنا، وظنّ علماء النفس أنه يمكن للإنسان أن ينفذ إلى محتويات عقله من الأفكار والدوافع والعواطف والمعتقدات، كان العقل مثل صندوق وكل ما كان يلزمك لمعرفة محتوياته هو أن تنظر في داخله، لكن سيغموند فرويد (1856 – 1939) حطم هذا الوهم من خلال عمله في التحليل النفسي، وكانت تلك هي الثورة الثالثة، فقد بين فرويد أن العقل هو لا شعوري ويخضع لآليات دفاعية مثل الكبت، في الوقت الحاضر نحن نعترف بأن معظم ما نقوم به هو لا شعوري، وكثيرا ما يقوم العقل الواعي بعد ذلك ببناء الروايات المنطقية لتبرير أفعالنا، ونعلم أنه لا يسعنا فحص محتويات عقولنا بالطريقة نفسها التي نفحص بها محتويات ما لدينا من أقراص صلبة، وهكذا جرت إزاحة الإنسان من مركز مملكة الوعي، إذ تبين أننا معتمون لأنفسنا، أو لا نفهم أنفسنا تمام الفهم. ربما نكون مدينين لفرويد فلسفيا أكثر منا علميا، لكن لم يعد الوعي بعد فرويد مثلما كان عليه قبلنا، نحن نقر اليوم بأننا لسنا ثابتين في مركز الكون، ولسنا منفصلين أو مختلفين عن بقية المملكة الحيوانية، وأننا بعيدون عن أن نكون ذوي عقول ديكارتية واضحة تماما لأنفسنا.
وأما الثورة الرابعة فقد أنشأها آلن تورينغ عندما أسس لهندسة وتصميم آلات مستقلة ذاتيا، وتستطيع أن تتفوق علينا في معالجة المعلومات معالجة منطقية، لقد أزاحنا تورينغ من مكانتنا المتميزة والفريدة في مملكة التفكير المنطقي، ومعالجة المعلومات والسلوك الذكي، فالأجهزة الرقمية تنفذ مزيدا من المهام التي تتطلب منا بعض التفكير عندما نكون في موضع المسؤولية، وبحلول العام 1950 لم تعد كلمة حاسب تشير إلى شخص يجري عمليات حسابية، وفقدت الكلمة دلالتها الأنثروبولوجية، وأصبحت مرادفا للآلة.
إن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تتفوق على الإنسان في أدائها، تحسب أفضل منه، بل وصرنا الفريق "الزائر" فيما صارت التكنولوجيا هي الفريق "المضيف" وصرنا نتقاسم طابعنا المعلوماتي مع آلات صنعناها بأيدينا التي تفوقت علينا في اللعب والتدقيق والتصحيح والترجمة والقياس والحسابات المعقدة والضخمة، وفي ايقاف السيارات وهبوط الطائرات.
هل ستؤدي تكنولوجيا المعلومات والاتصالات إلى مساعدتنا وزيادة مقدرتنا أم أنها سوف تقيدنا؟ يجيب فلوريدي بأننا يجب أن نتوسع في نهجنا البيئي والأخلاقي ليستوعب الحقائق، سواء كانت طبيعية أو من صنع الإنسان.