الثورة المصرية والثورة الفرنسية: أوجه الشبه والاختلاف

تعتبر الثورة الفرنسية التي انفجرت العام 1789، من أشهر الثورات التي قامت في التاريخ. فهذه الثورة التي أصبح عيدها السنوي يوم 14 تموز (يوليو) من كل عام، حدثت في وقت كانت فيه دول أوروبا تحكمها عوائل ملكية تمارس على شعوبها سلطاناً مطلقاً، تدعي أنه مستمد من إرادة الله، بصفة تلك العوائل وكيلة له في الدولة، تماماً وكأن جذور هذه السلطة السياسية على الأرض مغروسة في السماء. اضافة اعلان
وقد أسقطت الثورة، وفق نهجها الدموي الذي قل مثيله في التاريخ، حكم عائلة البوربون التي تعتبر من أكثر أنظمة الحكم تسلطاً واستبداداً في أوروبا، وفتكت بالعائلة المالكة ورموز حكمها، ونقلت فرنسا إلى طور جديد في تاريخها، شعاره سيادة القانون وحقوق الإنسان. كما عمّدت أفكار العلماء والفلاسفة الذين حاربتهم الأسرة البائدة لرفعهم رايات الحرية والعدل، حتى إنها حولت من أجلهم كنيسة جنيفيف وأراضيها الواسعة في الحي اللاتيني إلى مقبرة لعظماء فرنسا من المفكرين، منذ العام 1791، لتكون مأواهم الأخير، وأطلقت عليها اسم "مقبرة العظماء"، حيث وضعت على مدخلها عبارة تقول: "إلى مفكري الأمة، فوطنكم فرنسا مدين لكم". ونقلت إليها رفات العملاقين جان جاك روسو وفولتير.
ومنذ أوائل أيامها، أي في 27 آب (أغسطس) 1789، وضعت الثورة "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" بناء على اقتراح الكولونيل لافاييت، الذي كان قد ساهم في نجاح الثورة الأميركية، وعاد ليصبح أحد زعماء الثورة الفرنسية، حاملاً معه إعجابه بالدستور الأميركي الذي وضع العام 1787، وينطوي على تجسيد متوازن لفكرة العقد الاجتماعي التي نادى بها الفيلسوف الفرنسي روسو. وغدا هذا الإعلان أشهر الوثائق في التاريخ. وشكلت مبادئ الثورة الفرنسية وطروحاتها إعصاراً تحررياً اجتاح دول أوروبا، وحرك شعوبها، لتتساقط وفق منطلقاته، وعلى التتابع، النظم التي عاندت شعوبها، وتبقى الملكيات التي آمنت بأن الشعوب وحدها هي مصدر السلطة.
أما الثورة المصرية، فهي بأسلوبها وسلوكها السلمي، تشكل نمطاً مستجداً في الثورات التي عرفها التاريخ. فخلال أسبوعين ونيف، خرج أكثر من خمسة وعشرين مليوناً من أبناء مصر، في عاصفة ثورية ترفع شعار "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، لم تستطع ملايين القوى الأمنية وأعضاء الحزب الحاكم الوقوف أمامهم. فأسقطوا أكبر طغاة العصر، وكنسوا معه نظامه المستبد الفاسد الذي كان يشكل قلعة يستهدي بنهجها سلاطين الجور والظلم والتسلط في العالم العربي. وأعادت تلك الثورة، التي انطلقت يوم 25 كانون الثاني (يناير) 2011، مصر العروبة إلى حضن أمتها، لتكون القائد والرائد والمعلم. وانحاز الجيش المصري إلى أبناء وطنه، وشكل درعاً لحماية ثورتهم، محافظاً بذلك على تماسك الوطن ومخلصاً إياه من أيدٍ كانت تتربص به وبثورة أبنائه. وحتى الآن، فإن الثورة المصرية التي مضى على انطلاقتها عشرين شهراً، ما تزال في طور وضع القواعد الدستورية والقانونية، والخطط الاقتصادية والإدارية، ليتم بناء مصر الحديثة على أساسها.
ومما سوف يسجله التاريخ بأحرف من نور، لتقرأه الأجيال القادمة عن ثوار مصر، ويجعل ثورتهم تتميز بفخر على الثورات التي شهدها تاريخ الشعوب، هو أنه خلال الأسابيع الأولى التي احتاجها استقرار الثورة، شهدت ميادين مصر مظاهرات واعتصامات بالملايين، بدون أن تخرج عن طابعها السلمي الحضاري. وعندما وصلت الثورة إلى عنفوانها الذي أزاح حسني مبارك ونظام حكمه عن كاهل مصر، كان ميدان التحرير في القاهرة يحتضن مليوناً من الثوار في الليل والنهار. وبلغت عظمة مسلك هؤلاء الثوار أن تقوم بنات مصر وشبابها بتنظيف الميدان ومداخل الشوارع إليه، وأن يقوم شباب الأقباط من فتيان وفتيات بتشكيل دروع بشرية لإغلاق الشوارع المؤدية إلى الميدان أيام الجمعة، لحماية المصلين المسلمين فيه من أي اعتداء من قبل الخارجين على القانون الذين لا تخلو منهم دولة.
وأصبح ميدان التحرير أشبه بمدينة فاضلة، تزهو بها مصر على العالم، حيث أقام الأطباء منهم فيه لخدمة المليون، مستشفيات متنقلة، وأحضر الصيادلة ما في صيدلياتهم من أدوية لمن يحتاجها، وبنى القادرون منهم الخيام وقاموا بتجهيزها بالمنامات، فضلاً عن الطعام والشراب اللذين أغدقا على الميدان. وحوّل المهندسون و"الصنايعية" العربات المعطوبة إلى دورات مياه، وافتتحوا للميدان إذاعة، ونصبت أجهزة التلفاز لمتابعة الأخبار. وتساوى في هذا المجتمع الثوري الأمي والعالم، والفقير والثري، والعمال مع من شغلوا المناصب الوزارية، والمرأة والرجل، والمسلم والمسيحي، والراهب مع الأزهري. وعندما قام وزير داخلية مبارك بسحب قوات الشرطة من الشوارع، وأطلق العنان لكتائب البلطجية بعد هزيمته في معركة الجمال والأحصنة (وتبين أن تلك الكتائب تتبع إدارة خاصة لديه، تسلحهم بالسكاكين والخناجر والسّنج وحتى الشفرات) للانتشار في الأحياء السكنية وترويع الأهالي، لإجبار المعتصمين في الميادين على العودة الى بيوتهم لحماية عوائلهم، نظم الثوار فرقاً ومجموعات تتناوب على حماية الأحياء ليل نهار، ودوريات تجوب الشوارع للتحقق من هويات الغرباء عن الأحياء. وظل الزخم الشعبي مستمراً في الميدان ليحقق أهدافه. ووقف العالم وشعوبه مأخوذين بسمو الطابع الحضاري لثورة مصر، وعمق القيم الأصيلة لأبنائها، وأشاد بذلك رؤساء أميركا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، وغيرهم من قيادات دول العالم.
أما الفرعون حسني مبارك، ورجال حكمه الذين أوصلوا البلاد إلى أقصى درجات التراجع، ونشروا الفساد والاستبداد، واستباحوا ثروات مصر، فلم تعاملهم الثورة المصرية كما عاملت الثورة الفرنسية لويس السادس عشر ورجال حكمه، وإنما قدموهم إلى محاكمات مدنية، لتطبق عليهم ذات النصوص الإجرائية والعقابية السارية خلال عهد مبارك.
لم يفتك الثوار المصريون بمبارك ورجال حكمه، ولم يقوموا بنهب بيوتهم ومصادرة أملاكهم، ولم يحاكموهم أمام محاكم ثورية، ولا طبقوا عليهم قوانين ثورية تختصر الإجراءات وتنتهي بالإعدام المقرر سلفاً، كما حدث في ثورة الشعب الفرنسي على لويس السادس عشر وعائلة البوربون، أعرق الأسر المالكة في التاريخ.
ولكي أوضح للقارئ أوجه الشبه والاختلاف بين الثورتين أقول: إن أول وجه للشبه بين الثورتين الفرنسية والمصرية هو أن كل واحد من الشعبين الفرنسي والمصري مورس عليه حكم استبدادي فاسد، واستأثرت بخيرات الوطن طغمة ولاّها رأس الدولة مفاتيح المال والقرار، حتى شكلت طبقة عليا تزاوج فيها الثراء مع السلطة، فأصبح النهب مشروعاً بموجب قوانين وقرارات سلطوية، وغدا الانحراف هو الأصل، ما دام الحاكم الفرد على رأس المنتفعين. وفوق هذا الشبه، هناك الشبه الجوهري، وهو أن الشعب قد اندفع إلى الشوارع والميادين بثورة عارمة، بدون قائد يوجهه أو يخطط له خطوات حركته. وقد يكون لكل فرد أو مجموعة أو تيار أسبابه ودوافعه، ويعتقد أن الثورة قد تأخر انطلاقها، إلا أن الجامع المشترك بين الجميع أن يعيش في وطن تسود في مجتمعه مبادئ العدل والمساواة وتكافؤ الفرص. يضاف الى ذلك، تشابه مهم في واقع كل من فرنسا ومصر؛ ففرنسا كانت أكبر شعوب أوروبا سكاناً، وأوسعها انتشاراً في مؤسسات التعليم، وأكثرها في الإشعاع الفكري والثقافي والفني، وأقدمها في عراقة السلطة والحكم، وأعمقها في صناعة الحضارة والريادة، فكانت دول أوروبا تقتبس منها وتفيد في كافة المجالات. وهذا هو حال مصر بالنسبة لدول العالم العربي.
أما أوجه الاختلاف بين الثورتين، فتظهر جليّة واضحة عندما نعلم كيفية تعامل الشعب في الحالين مع طبقة الحكم، وبشكل خاص مع رئيس الدولة.
ففي فرنسا، كان الشعب تبعاً لبعض المصادر 25 مليون نسمة عند قيام الثورة العام 1789، وفي مصادر أخرى 26 مليونا، يتكون من ثلاث طبقات: طبقة الإكليروس أو رجال الدين وعددها 130 ألف فرد، وطبقة النبلاء وعددها 400 ألف فرد، والباقي هم طبقة العوام (المصدر: ويل وإيربل ديورانت، قصة الحضارة، ج 43، المجمع الثقافي، أبو ظبي، 2002، ص43).
أما مصر، فقد كان عدد سكانها عند قيام الثورة 85 مليون نسمة. وإذا كانت نسبة الفئات المنعمة من رجال الدين والنبلاء في فرنسا تعادل حوالي 2 % من الشعب الفرنسي، والباقي (98 %) وظيفتهم خدمة الطبقة المنعمة، فإن عهد حسني مبارك الذي دام 30 سنة، ركز السلطة في أيدي فئة قليلة من المحاسيب والأنصار، وتراكمت الثروة في جيوب من يستحوذون على تلك السلطة ومن يسبح في فلكها من الأتباع والفاسدين والمفسدين إلى حد كان عددهم أقل من 2 %، في حين جعل نسبة العوام في مصر أكثر من 98 %. وفي الوقت الذي لم يقم أي واحد من ثوار مصر بإلحاق أي إيذاء مادي أو بدني بأي واحد من طبقة السلطة ورأس المال من جماعة مبارك، بعد عزله في 11 شباط (فبراير) 2011، كان الوضع في فرنسا مختلفاً جداً.
يروي ويل ديورانت وزوجته إيريل في موسوعتهما قصة الحضارة (المرجع السابق، ص116–121) ما يلي وفقاً للاقتباسات التالية:
"فبعد ساعات قليلة من عزل الملك عن عرشه (كان العزل في 21/9/1792)، أرسل كميون باريس إلى الأحياء المختلفة فيها قائمة بالقسس المشكوك في أهدافهم والمشكوك في أن لديهم مشاعر معادية للثورة، وكان عدد كبير منهم قد أُرسلوا إلى السجون المختلفة، لذا فقد كانوا ضحية أساسية في أثناء المذبحة... وقد اتفق الكوميون واليعاقبة والجيرونديون والجبليون على أنهم يأملون أن يكون الإخلاص للجمهورية الشابة سيصبح هو دين الدولة، فستحل مبادئ: الحرية والمساواة والإخاء، محل الأب والابن والروح القدس، وأن تعزيز هذا الثالوث الجديد يمكن أن يكون هو الهدف المهيمن للنظام الاجتماعي والمعيار النهائي للأخلاق... وقد أرسل أعضاء اللجنة العامة في دار البلدية ملاحظة غريبة إلى أنتوني سانتير (Antonie Santerre) الذي كان وقتئذٍ القائد العسكري لقوات أحياء باريس تقول: لقد علمنا أن خطة توضع للمرور على سجون باريس لنقل السجناء كلهم لتنفيذ حكم العدالة فوراً فيهم. إننا نرجوك أن يشمل إشرافك مراكز الحجز الثلاثة في باريس... واندفعت الحشود منتشية بمنظر الدماء ونشوة القتل غير المنسوب إلى أحد بعينه، إلى مبنى دير الكرمل، وقتلوا القسس المحتجزين هناك. وفي المساء، بعد قضاء فترة راحة، كانت الحشود قد تزايدت، فتوجهوا إلى (Abbaye) أحد الأديرة الذي أصبح سجناً، وأجبروا السجناء على الخروج والجلوس لسماع الحكم عليهم، وأسلموا الغالبية العظمى منهم، أي قسٍ أو ملكي أو أي شخص كان في خدمة الملك، بمن في ذلك أي سويسري (حيث كان الملك قد استدعى كتائب من الجيش السويسري لحماية قصره) أسلموهم إلى رجال متعطشين لقتلهم، فقتلوهم بالسيوف والرماح والهراوات... وانتقل الجلادون (منفذو القتل) والقضاة إلى سجون أخرى، حيث استمرت المذبحة في ضحايا جدد وبجلادين جدد... وهنا كانت توجد سيدة مشهورة، انها الأميرة دي لامبيل (de lamballe) التي كانت ذات يوم ثرية رائعة الجمال، وكانت محبوبة لماري انطوانيت (وهي إمبراطورة فرنسا زوجة لويس السادس عشر) وأثيرة لديها، وكانت قد اشتركت في محاولة لإنقاذ الأسرة المالكة. إنها الآن في الثالثة والأربعين من عمرها عندما قطع رأسها وبُترت أطرافها، ونُزع قلبها من جسدها وأكله الجمهوريون المتحمسون، ورفعوا رأسها على رمح ولوّحوا به عارضين إياه من نافذة زنزانة الملكة في سجن "تمبل"".
ما سبق هو جانب يسير من المذابح التي أوقعها الثوار الفرنسيون في رجال الحكم والفئات المنعمة، إذ استمر الذبح والقتل لفترة طويلة بعد إعدام الملك والملكة، حتى بلغ الضحايا ما يصل إلى مائتي ألف. فأين ذلك من قيم ثوار مصر، ورقي أسلوبهم السلمي في الثورة؟
أما المقارنة بين محاكمة حسني مبارك ومحاكمة لويس السادس عشر، فإنها تستحق التوقف عندها والتأمل فيها، لندرك أثر الحضارة العربية الإسلامية وقيم العدل في وجدان أبناء مصر، عند محاكمتهم لمن طغى وتجبر، كفرعون جديد تربع على عرش مصر 30 سنة، ونتساءل: أين ذلك من محاكمة لويس السادس عشر؟
فقد قدم حسني مبارك للمحاكمة يوم 3 آب (أغسطس) 2011، أمام محكمة مدنية وليس أمام محكمة استثنائية أو عسكرية. واستمرت المحاكمة حتى يوم 2 حزيران (يونيو) 2012، أي مدة عشرة أشهر، عقدت خلالها 46 جلسة، وأعطي محاموه كامل الفرصة والوقت لتحضير دفوعهم وبيناتهم ومرافعاتهم دفاعاً عنه، وطبقت المحكمة على مبارك مبدأ المتهم بريء حتى تثبت إدانته. وخلال فترة المحاكمة، وضع مبارك في أرقى مستشفيات مصر، وقدمت له أفضل خدمات طبية يمكن أن تقدم في العالم. وحتى بعد أن صدر عليه حكم المؤبد، فقد نقل إلى مستشفى خاص في السجن، وضعت فيه أحدث الأجهزة الطبية التي كلفت الملايين ليصبح منتجعاً، وتم نقل أحد ولديه من سجنه ليكون بجوار والده في منتجعه.
أما الوضع بالنسبة لزعيم دولة فرنسا، فقد كان مختلفاً بشكلٍ جذري. فوفقاً لما ورد في (Michael Walzer, Regicide and Revolution: Speeches at the Trial of Louis 16, Columbia University Press, 1993, pp. 131– 132; وانظر أيضاً ويل وإيريل ديورانت ج43، المرجع السابق، ص132 – 134): فقد تم اعتقال لويس السادس عشر يوم 13 آب (أغسطس) 1792 ونقل إلى السجن، وفي 21 أيلول (سبتمبر) 1792، تم إعلان عزله وإلغاء النظام الملكي، وتجريد الملك من جميع ألقابه ونياشينه وأوسمته، ومن ثم إعلان الجمهورية. وانقسم الثوار بشأن مصير الملك لويس. فذهب فريق منهم إلى ضرورة إبقائه سجيناً كضمان لعدم التوغل في الأراضي الفرنسية من قبل إمبراطور النمسا شقيق زوجة الملك ماري، وإمبراطور بروسيا وبعض الدول المتحالفة معهم، وذلك بعد أن أعلنوا الحرب على فرنسا، حيث ستمنعهم الخشية من قتل الملك من تنفيذ غزوهم لفرنسا. وذهب الفريق الآخر إلى ضرورة إعدام الملك فوراً لقطع أي أمل بعودة الملكية إلى فرنسا، وبالتالي إلغاء أي أمل للغزاة بهذه العودة. وبعد أن طال النقاش بين الفريقين، اتفق الجميع على أن يكون القرار النهائي بشأن مصير الملك للجمعية الوطنية الفرنسية التي تتكون من 721 عضواً.
وتم إحضار الملك من سجنه يوم 11 كانون الأول (ديسمبر) 1792 لتوجيه الاتهام إليه بخيانة الشعب ومقارفة جرائم ضد الدولة. وكان على الجمعية الوطنية في اجتماعها يوم 15 كانون الثاني (يناير) 1793، أن تناقش الاتهامات. وسمح للملك بتوكيل فريق من المحامين المشهورين للدفاع عنه ليكون على رأسهم ريموند دي سييز (Raymond de Seze) الذي يعتبر في حينه من أكفأ محامي فرنسا. ووفقاً للكتاب الذي خصصه ديفيد جوردان لمحاكمة الملك، فإن سييز هذا من مواليد 1750، أي أن عمره في وقت دفاعه عن الملك كان 43 سنة، ولم يكن يعلم بأنه سيدافع عن الملك سوى قبل أربعة أيام من تاريخ انعقاد الجمعية الوطنية التي ستحاكم الملك. وقد رد على الاتهامات الموجهة للملك بالخيانة وارتكاب جرائم، واحدة واحدة، لمدة ثلاث ساعات. وموجز ما أبداه أن الجمعية التي تتولى محاكمة الملك قد وضعت دستور الثورة العام 1791، وتحولت فرنسا بموجب هذا الدستور إلى ملكية دستورية يرأسها الملك لويس نفسه. ونص هذا الدستور على حصانة كاملة للملك من أي مسؤولية. وأزال النص الدستوري بذلك أي شبهة يمكن أن توجه لسلوك الملك قبل تشريعه. أما بعد صدور النص، فإنه إذا كانت الجمعية الوطنية قد ألغت الملكية في 21 أيلول (سبتمبر) 1792، فما هي هذه الجرائم التي تنسبوها للملك، وهو خلال الفترة بين التاريخين أمام عيونكم؟ ومتى ارتكبها؟ إنه ليس أمام الجمعية أدلة تثبت أي جريمة منسوبة للملك، مؤكداً أنه إذ يدفع بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، فإنه لا يوجد دليل واحد أمام الجمعية يدين الملك. وقد سحرت مرافعته ودفوعه حتى بعض خصوم الملك.
يعتبر الدفع الذي قدمه سييز بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته في غاية الأهمية، إذ إن تطبيقه يعني فحص كل دليل وبينة مقدمة ضد الملك، للتحقق من مقارفته للجرم المسند إليه. وبالطبع، فإن من شأن ذلك أن يطيل فترة المحاكمة، وسوف يؤدي مرور الأيام الى فتور الحماس ضد الملك.
وهنا انبرى روبسبير (Maximilien Robespierre)، المندوب الأول لباريس في الجمعية الوطنية، قبل أن يعين النائب العام لباريس، بمرافعة مطولة للمطالبة بإعدام الملك. وروبسبير هذا من مواليد العام 1758، وكان محامياً بارعاً، رغم صغر سنه الذي لم يكن قد تجاوز 34 سنة في ذلك الوقت. واشتهر بفصاحته وبلاغة مرافعاته، وقدرته على اجتذاب الجماهير وتوجيههم من خلال خُطبه.
ووفقاً لما جاء في الصفحة 132 وما بعدها من كتاب (Michael Walzer) سابق الإشارة إليه، بدأ روبسبير الخطبة/ المرافعة بالتأكيد على أن اعتبار الملك بريئا حتى تثبت إدانته يعني بالضرورة أنه طيلة فترة المحاكمة التي ستُفترض فيها براءة الملك، حتى تثبت إدانته، لا بد في المقابل من الافتراض أن كل واحد من الثوار محل اتهام حتى تثبت براءته، وبالتالي يتوجب على كل منهم أن يقدم من الأدلة ما تثبت براءته. إن افتراض براءة الملك تعني أن من يؤيدون ذلك هم في ذات الوقت يجرمون الكميونات، والجمعية الوطنية، والثورة، ويجرمون كل من أوصلنا إلى هنا، وكل من ساهم أو صادق على إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، فأفعال هؤلاء جميعاً هي أفعال مجرّمة وفقاً للقانون، قانون النظام الذي أسقطناه، فهل تريدون ثورة تُسقط الظلم والاستبداد، وتهدم الباستيل، وفي الوقت ذاته لا تكون ثورة تخالف قوانين من قامت ضده؟! وأضاف روبسبير في مخاطبته للجمعية الوطنية: إنكم إن قبلتم افتراض براءة الملك، فعليكم القبول بافتراض أن كل واحد منكم متهم، ويمتد الاتهام الى كل واحد من الشعب الفرنسي الذي حررتنا ثورته من ظلم الملك ونظامه، وفكّت السلاسل التي كانت تقيدنا. ليس أمامكم في المحصلة إلا الاختيار بين أمرين؛ إما أن الشعب مدان، وإما أن الملك هو المدان. وأنا ومن أنطق باسمهم (وكان روبسبير زعيماً للجناح المتطرف في الجمعية)، نرفض المفاضلة في الإدانة بين جلاد ثُرنا عليه، وضحايا كل واحد منا يعرفهم. إن الحكم في حالتنا يتوجب أن يكون للشعب، ونؤكد أن الشعب الفرنسي الذي تمثلونه قد مارس حقه بثورته، ونجاح ثورة هذا الشعب لا تعني سوى أمر واحد، هو أنه حاكم الملك وأصدر الحكم النهائي بإدانته. أما الجمعية الوطنية، فليس لها أن تعيد النظر في محاكمة أجراها الشعب وأصدر حكم الإدانة فيها "وكل ما يبقى لهذه الجمعية هو أن تحدد العقوبة فقط، ولا أظن أن غير الإعدام للملك يناسب ما جنته يداه بحق شعبه".
وثارت مناقشات مطولة في هذه الجلسة للجمعية الوطنية، أي جلسة يوم 15 كانون الثاني (يناير) 1793، وانتهت بإصدار القرار بأغلبية 693 عضواً، من بين 721 عضواً عدد الجمعية، بأن الملك تآمر على الشعب وارتكب أبشع الجرائم بحقه. والفارق بين الرقمين امتنعوا عن التصويت، ولكن بدون أن يصوت أي عضوٍ لصالح الملك. ولطول المناقشات، تأجل تحديد العقوبة إلى الجلسة اللاحقة في اليوم التالي، فصوتت الأغلبية على إعدامه. وفي اليوم اللاحق، أي 17 كانون الثاني (يناير) 1793، أُعيد التصويت مرة أخرى بناء على طلب تقدم به بعض أعضاء الجمعية، فقررت الأغلبية عقوبة الإعدام. وفي يوم 21 كانون الثاني (يناير) 1793، تم اقتياد الملك إلى ميدان الثورة (الكونكورد حالياً) ونفذ فيه حكم الإعدام بالمقصلة، وكان عمره 38 سنة. وبتاريخ 14 تشرين الأول (أكتوبر) 1793 شكلت محكمة ثورية للملكة ماري أنطوانيت، وصدر الحكم بإعدامها بالمقصلة، وتم تنفيذ الحكم في ميدان الثورة يوم 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1793، وكانت في السابعة والثلاثين من العمر.
وهكذا، فقد صدر الحكم بإعدام لويس السادس عشر بعد جلستين من المحاكمة، وبإعدام زوجته ماري بعد جلسة واحدة! فأين ذلك من 46 جلسة تم تخصيصها لمحاكمة مبارك، ومن معاملة رؤساء الدول التي عومل بها مبارك خلال فترة محاكمته، وحتى أثناء تنفيذه عقوبة السجن؟! وأين ذلك من ترك قضاة مصر لسوزان زوجة مبارك حرة طليقة، في مقابل إعادتها للأموال الحرام التي دخلت ذمتها عن طريق الفساد واستغلال النفوذ؟!
وفي المحصلة، ستظل ثورة أبناء مصر نموذجاً يُحتذى، ليس فقط في العالم العربي، وإنما لدى شعوب العالم التي تعاني من ظلم واستبداد حكامها وفسادهم.