“الثورة سورية”

يبتهج في هذه الأيام الغائمة مثقفو الممانعة بالعدوان الروسيِّ الإيراني على حلب، يحتفلون بـ“رايات لينين الحمراء”، بعد أربع سنوات على الإدارة العسكرية لـ “قاسم سليماني” وتحت ظلّ آيات “العلم الأصفر”. لا بأس يمكنهم أن يشربوا أيضاً نخب العدوان الكحول السليمة من الغش، ويتحدثوا بثقة الغالب عن النصر، وعودة حلب “إلى حضن الوطن”، وربّما بالفعل يصيرُ للمستحيل ضلعاً رابعاً، ويخرج “السيد الرئيس الممانع” من حيِّ المهاجرين، ويزور قبر أبيه وأخيه في اللاذقية، دون إخراج تلفزيونيٍّ مكشوف بالثغرات، لكنّ الذي خسِرَ حتى النهاية شاعرٌ قليل الشِّعر لم يزعجه في فيلم اغتصاب طويلٍ سوى أنّ المُغْتَصَبَةَ قالت: “بَدِّي حرية”!اضافة اعلان
عبر أيّام الحصار في العملية الهمجيّة التي يسميّها الممانعون “تحريراً” (مفردة التحرير لديهم لم تسبق منذ خمسين عاماً الجولان)، حاولتُ بعبث تفكيك خطاب “مثقفي الممانعة”، وإخضاعه عنوة للمنطق، فهو انفعالي يُختصر بسطر فيسبوكي، واتهامي كالمرافعات المرتجلة على قناة “دنيا” الأسدية، وإقصائي كأيِّ تربية حزبية شموليّة، فهم يتهمون خصومهم بأنهم يقبضون رواتب من بلاد “البترودولار”، واثنان من العرّابين يكتبان في صحف خليجية، وثالثهم في صحيفة لبنانية تمويلها إيراني، وكتَبَتْهم على فضائيات “السيِّد” المباشرة وغير المباشرة، ويلصقون بخصومهم صفة “الوهّابيّة”، وهم يناصرون نظاماً طائفياً يحكمُ بلداً بطائفته، ويستعين بدولة من طائفته، وميليشيا مجاورة من طائفته، فهو نظام “علوي” العلمانية فيه، على ما يبدو، فرقة اسماعيلية!
خمسون عاماً كان الممانعون يجلسون في أحزاب حمراء، فوق الأرض وتحتها، وأمناء عامون أمضوا في المعتقلات “سنين عددا” من أجل “الحرية” و”العدالة الاجتماعية”، وشعراء تفعيلة ووزن صارم ساندوا “شمال فيتنام”، وأرسلوا التحيّات لـ”الرّفاق في كوبا الأبية”، ويساريون طفوليون يشتمون “الراسخ” والمكرّس” لنيل حبِّ فتيات مصابات بالأنيميا، يحفظون الرديء والبذيء من شعر “مظفر النوّاب”، وملخّصات لـ”مهدي عامل”، ويروون قصصاً واقعيّة وأخرى مضافة إليها عن حرب العصابات للثائر “غيفارا”، يحتفلون بصدور اسطوانة لـ”خالد الهبر”، وديوان لـ”سعدي يوسف”، ويشربون بمطاعم معتمة نخب “الثورة البلشفية”، ولما قامت الثورة في سورية، اجتنبوها، ثمّ حاربوها، واعتبروها “رجساً من عمل الشيطان”.
لن يمكننا إجراء فحص إنسانية وذوق عام للممانعين، من شعراء قليلي الموهبة، وقصّاصين خارج الدهشة، الذين يكتبون بالنبيذ الأحمر على صفحاتهم نخب “النصر” على جثث الأطفال المحروقة، والنساء المنتحرات خشية الاغتصاب. هم جيراننا على الأرض، وشركاؤنا في الهواء، يقفون احتراماً للقانون عند ضوء الإشارة الأحمر، ويعترضون بأدب على محصّل الكهرباء، ويبدون ضجراً خفيفاً من السياسة العامة، ويغتسلون بعد الأكل، ويأكلون ما نأكل، ويشربون ما نشرب، لكنّ للإنسانية علامات أخرى كشفت عنها مجازر حلب التي ليست أخيرة، ولن يمكنهم اكتسابها حتى لو اغتسلوا بمياه الفرات، وثلوج جبل الشيخ، وأغنيات فيروز. لن يغفر لهم الناجون من محرقة حلب، ولا أرواح النائمين تحت ركامها، ولا حجارة “الفردوس” و”صلاح الدين” و”الكلاسة”.
لديهم فاصل قصير للرقص على الجثث والركام، ورفع أصابع النصر، لكنّ الحق الذي في الشّعر الأغنيات لا يكذب: “الثورة سورية”.