الجائحة والاستثمار في الصحة

رغم أننا ما نزال نقف على مسافة بعيدة من ذلك اليوم الذي نحلمُ أن نُعلن فيه هزيمة جائحة (كورونا) والتلذذ بفرحة الانتصار النهائي عليها، إلا أن العلماء وصناع القرار قد بدأوا بمناقشة سُبل الوقاية واستراتيجيات المُواجهة لصد جوائح مقبلة ومُتوقعة. فالاعتقاد السائد بشكل كبير بين المُتابعين والمُختصين في هذا الشأن يعلمنا بأن هذه الجائحة ليست سوى مقدمة لأخريات وبغض النظر عن الجدل المُحتدم حول منشأ هذا (الفيروس)، والآراء المتضاربة فيما إذا كان مُصنعاً أم نتيجة طبيعية لطفرات تعرض لها، فإن ما شهدناه خلال العَامين الماضيين من معركتنا مع ( كورونا)، ربما يُمهد لإخبارنا بطريقة أو بأخرى بأننا على أعتاب مرحلةٍ جديدة من مواجهة أوبئة أخرى في علم الغيب، لا نعلمُ مدى شدتها لكن ربما لن تكون أقل ضراوة من جائحة (كورونا) وهذا يتطلب منا التسلح، وأن نبدأ بالإعداد للمواجهة، واتخاذ اجراءات استباقية لا تحتمل التأجيل. فالخسائر البشرية والمادية الهائلة التي رتبتها جائحة (كورونا) على مختلف دول العالم، وأثقلت بها كاهلها، ستفرض علينا أن نبقى نعاني من آثارها لفترة طويلة من الزمن، ولن يحتمل العالم هزات جديدة مشابهة وبهذه الشدة، لذلك كانت التوصيات التي خرجت بها اللجنة المُنبثقة عن « قمة العشرين» إلى النور، والتي دعت دُول العالم الى أهمية وضرورة الاستثمار في الصحة كأحد أنجع الوسائل للحد من تأثيرات أي جائحة مقبلة. فقد دعت اللجنة الدول لإنفاق مبلغ (75) مليار دولار اميركي خلال السنوات الخمس المقبلة تصرف على تطوير أنظمة مراقبة الامراض المُعدية، وتحسين مرونة الانظمة الصحية، والاستثمار في مجال المطاعيم تصنيعا وتوزيعاً ومراجعة حوكمة القطاع الصحي. وخرج المجتمعون بتوصيات مفادها أن انفاق عشرات المليارات من الدولارات اليوم سيوفر على الاقتصاد العالمي تريليونات الدولارات من الخسائر المُحتملة في مواجهة أي جائحة مقبلة. كما حث المجتمعون الدول النامية على زيادة الانفاق الحكومي على الصحة بنسبة (1 %) من اجمالي الناتج المحلي خلال السنوات الخمس المقبلة، ودعوا الى دعم منظمة الصحة العالمية لاستحداث قسم مختص بالجوائح ضمن مؤسسات البنك الدولي. لقد جنى العالم في نهايات القرن الماضي نتائج الاستثمار في الصحة الذي اعتمده خلال العقود السابقة، والذي تم توجيهه الى برامج التطعيم، وتحسين مصادر المياه ومراعاة مبادئ الصحة العامة، وتحديث برامج التغذية والتوعية، حيث تم انقاذ ملايين الارواح وتحقيق نتائج ملموسة فيما يتعلق بمعدل العمر وانخفاض وفيات المواليد والامهات، وهذه كلها تمت ترجمتها الى مليارات الدولارات المُترتبة من الفوائد الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة . لكن هذه النجاحات أغرت صناع القرار بتقليص الدعم للقطاع الصحي وخفض الانفاق وتوجيه الموارد الشحيحة الى قطاعات اخرى. فجاءت هذه الجائحة لتذكرنا بأن الاستثمار في الصحة هو أنجح أنواع الاستثمار، وان العائد المادي من هذا الاستثمار يفوق أي استثمار آخر بأضعاف. فلم يعد مقبولاً أن ينظر السياسيون الى الانفاق على القطاع الصحي كمصدر عبء وهدرٍ للأموال. فقد أثبتت التجارب أن هذا الانفاق استثمار ذو عائد مادي كبير فضلاً عن العائد المعنوي المُتمثل في تحسين رفاه الانسان وصحته، فالعلاقة بين الصحة والثروة علاقة طردية ومتبادلة يساهم كل منها في ازدهار الآخر. قد لا نستطيع أن نمنع (الفيروسات) من التحور والانتشار، ولا نملك الأسباب في منع الأوبئة من الضرب مرة أخرى لكننا نستطيع أن نبني أنظمة قادرة على رصدها مبكراً والتعامل معها دون إبطاء، وأن نبني نُظُماً صحية قادرة على امتصاص الصدمة وأنظمة توريد كفؤة ومرنة، فالصراع بيننا وبينها هو صراع مع الوقت وهذا الأخير ليس في مصلحتنا. وكما قال الشاعر محمود درويش:» فلا وقتَ للوقت».اضافة اعلان