الجامعة الأردنية تستحق منا أكثر

"فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى".

في المرات التي زرت فيها المملكة العربية السعودية بعد تخرجي من جامعة الملك عبدالعزيز بجدة، كانت زيارة الجامعة والطواف بمكتبتها وممراتها وكلياتها جزءا متمما لرحلة العمرة، كأن الطواف والسعي بين الصفا والمروة لا يكتملان إلا بزيارة الجامعة. وبعد تخرجنا من الجامعة بخمس وعشرين سنة، ما يزال الرفاق يتقصون ويبحثون عن أخبار بعضهم في أرجاء الأرض. استحضار الرفقة والأساتذة والأيام الجامعية ما يزال موردا ثريا وحيلة جميلة لمواجهة جفاف الحياة وقسوتها، وما أزال أستحضر عذوبة الانصراف المتأخر من الجامعة كما كنت أفعل بعد أن تغلق المكتبة أبوابها. أعيد المشهد اليوم، كأنني في معبد أمارس طقسا روحيا سريا، هذا المسير في الليل عائدا إلى البيت من الجامعة كان يمنحني على الدوام شعورا بالعبء الجميل، وعندما عدت إلى الجامعة للعمل بنصف الراتب الذي كنت أحصل عليه من قبل شعرت أني تائه في الصحراء وجد طريقه، أو ظامئ يبحث عن الماء ثم وجده. وحين أدخل من بوابة الجامعة في الصباح أو أغادرها في المساء وبرفقتي ابني وابنتي طالبا الجامعة الأردنية وأصدقاؤهما تغمرني نشوة الحنين والزهو والتواصل، كأني لم أغادر الشباب الجميل المليء بالوعود والأحلام، كأن الخيبات كلها تتلاشى، هذا الصرح الذي تعاقبت عليه الأجيال وتخرج منه العلماء والقادة والأدباء والفنانون والمهندسون والأطباء، وكثير منهم عادوا إليه مرة أخرى، كأنه بيت العائلة الكبير، كأنه هدية غالية أو شعلة مقدسة نتسلمها ونسلمها لأبنائنا، ما/ مَن نحن بلا حنين وذكريات وأساطير وحكايات؟ ما الحكايات التي سيرويها لأبنائهم أولئك الذين يضربون بعضهم ويدمرون مرافق جامعتهم؟ ما الذكريات التي سترافقهم؟ كيف سيعودون إلى الجامعة وقد انتهكوا جمالها وهيبتها وقدسيتها، وملؤوها في لحظة من الجهل بالصراخ والشتائم والشجار؟ أخالها لحظة سيظلون يخجلون منها طوال حياتهم وسيخجل منها أيضا أبناؤهم وأحفادهم.

اضافة اعلان

يأتي إلى الجامعة اليوم مئات الطلبة من جميع أنحاء العالم، بما فيها دول الغرب المتقدم للدراسة وإعداد البحوث ورسائل الماجستير والدكتوراه، يفاجئوننا بقدر قراءاتهم ومتابعاتهم للفكر الإسلامي والتراث العربي، يحسدوننا على ابن رشد، ونصر حامد ابو زيد، وطه حسين، والطاهر عاشور، وعلي عبدالرازق، ومحمد أركون ومحمد عابد الجابري، وحسين مروة، ومحمد إقبال، وعمر الخيام، وجلال الدين الرومي، والفارابي، وابن خلدون كما نحسدهم على امبرتو إيكو، وجون رولز، وبرتراند رسل، وكارل بولانيي، وفيورباخ، ونيتشه، وهيغل، وكنت، واسبينوزا. ويقدم اليوم في الجامعة الأردنية طلبة أردنيون دراسات إسلامية متقدمة وجريئة باللغة الانجليزية، وفي الوقت الذي حظرت دول كثيرة على نصر أبو زيد دخولها، كان موسى برهومة يناقش رسالة دكتوراه عن منهج التأويل عند نصر أبو زيد، وفي الجامعة الأردنية اليوم أكثر من ألف أستاذ جامعي بينهم أكثر من ثلاثمائة حصلوا على الأستاذية.. هذا الصرح الجميل يستحق منا أكثر.