الجدار الحديدي لا يجب أن يستمر إلى الأبد

هآرتس

دمتري شومسكي  5/11/2018

في مثل هذا اليوم قبل 95 سنة، في 4 تشرين الثاني 1923، نشر في الصحيفة الصهيونية الروسية "راسزبايت" التي صدرت في حينه في برلين، مقال لفلاديمير جابوتنسكي بعنوان "على الجدار الحديدي، نحن والعرب"، الذي يعتبر حتى الآن هو الهوية الفكرية له. وكما يليق بنص أساسي كتب على يد زعيم وطني رفيع، يحتوي المقال على ثلاث مكونات اساسية ضرورية لنص من هذا النوع: الحلم، طريقة تطبيقه، والاعتراف المسبق بالحاجة الممكنة للوصول إلى تصالح بين الحلم والواقع.اضافة اعلان
منذ موت جابوتنسكي واقامة دولة إسرائيل، وبصورة أكبر في السنوات الأخيرة، كل مكون من هذه المكونات الثلاثة لـ "على الجدار الحديدي" خضع لتشويه كبير من قبل اليمين القومي المتطرف في إسرائيل، بسبب التواصل المؤسسي الحزبي بين الحركة المتشددة التي اقامها جابوتنسكي وبين حزب الليكود، يرى نفسه كمواصل لطريقه.
الحلم السياسي- الوطني لـ "على الجدار الحديدي" يظهر في الخطوط العامة من الفقرة الافتتاحية. النظام السياسي في الدولة العتيدة ذات الاغلبية اليهودية التي يؤيد قيامها الكاتب، يجب أن يعكس مبادئ خطة مؤتمر هلسنكبورس، المؤتمر الثالث للصهاينة من روسيا الذي عقد في 1906. البرنامج السياسي لهذه الخطة دعا فعليا يهود روسيا القيصرية إلى الانضمام للحركات القومية غير اليهودية في الدولة والنضال من اجل تغيير صورة روسيا القيصرية من استبدادية قمعية مهيمنة إلى ديمقراطية متعددة القوميات وتعددية، بحيث تدمج الاعتراف بحقوق المواطن الفردية مع منح حكم ذاتي وطني موسع لكل التجمعات القومية التي تشكل الدولة.
عندما تلاميذ جابوتنسكي في نظر انفسهم في ايامنا، المؤيدين لاستمرار الاستعباد المدني والقومي للفلسطينيين، يواجهون بحقيقة أن جابوتنسكي، في "على الجدار الحديدي" وكذلك في نصوص اخرى – تحدث عن نماذج سياسية مستقبلية تعترف بـ "حكم ذاتي وطني" لعرب ارض إسرائيل، هم فورا يقفزون على الاكتشاف ويماهون حلمه مع "الدولة الناقصة" لنتنياهو. ولكن لا يجب أن يخطر بالبال تشويه أكبر من هذا: جابوتنسكي تحدث عن دولة جامعة واحدة، فيها العرب الفلسطينيون يكونون مواطنين متساوي الحقوق، في حين أن نتنياهو لا يخطر بباله اعطاء الجنسية للفلسطينيين في دولة إسرائيل.
عندما يأتي للحديث عن طريقة تطبيق حلمه، أكد جابوتنسكي بأنه لا يوجد ولن يكون هناك أي بديل آخر سوى "الجدار الحديدي"، تأكيد ضمان استمرار الاستيطان الصهيوني برعاية دولة عظمى اجنبية أو بمساعدة قوة عسكرية يهودية، بهدف أن تنشأ في ارض إسرائيل اغلبية يهودية كبيرة رغم أنف السكان الفلسطينيين. باستقامة فكرية وعامة كانت تميزه اعترف جابوتنسكي بوجود ملامح استعمارية في الصهيونية، وقال بأنه لا يجب أن ننتظر اتفاق مع العرب الموجودين في ارض إسرائيل طالما أن اليهود هم أقلية والسلطة ليست في أيديهم. حيث أن عرب البلاد، وكما كل شعب أصلي، يرون في ارض إسرائيل (في المصدر الروسي "فلسطينية") وطنهم القومي، لذلك سيحاربون ضد الكولونيالية الصهيونية بلا هوادة.
ولكن، عهد "الجدار الحديدي" لا يجب حسب جابوتنسكي أن يستمر إلى الأبد. عندما سيتبين للعرب أنه "في الجدار الحديدي لا يبدو هناك أي صدع" وأن الاغلبية اليهودية ونظام الحكم اليهودي في البلاد اصبحا حقيقة واقعة، عندها ستظهر في اوساطهم مجموعات ستوافق على المجيء للصهاينة من اجل اجراء مفاوضات معهم – "وهم يحملون في أيديهم اقتراحات لتنازلات متبادلة".
هكذا، حسب معايير جابوتنسكي، الإسرائيليون والفلسطينيون غير موجودين في عهد "الجدار الحديدي" منذ بداية عملية اوسلو. حيث أنه ليس هناك خلاف على أنه رغم الدور الرئيسي الذي تلعبه في الساحة الفلسطينية حماس والجهاد الاسلامي، فإن قيادات الاوساط الفلسطينية المعتدلة أكثر، والذين يحتلون منذ سنوات مكانة لا بأس بها في القيادة الفلسطينية، حقا جاءوا للإسرائيليين "وهم يحملون اقتراحات لتنازلات متبادلة".
إلا أنه من ناحية تلاميذ جابوتنسكي في نظر انفسهم في اليمين النتنياهوي، فإن شيئا لم يتغير منذ العام 1923. بالعكس، هم يواصلون اتباع مقاربة "الجدار الحديدي" حتى بعد أن تحققت في البلاد اغلبية يهودية، وتأسست السيادة اليهودية، والقيادة الفلسطينية المعتدلة اتخذت قرار حاسم ومؤلم في صالح اجراء مفاوضات مع الصهيونية. كل ذلك من اجل اجبار الفلسطينيين على الموافقة على وجود سياسي مقموع ومهان، بدون حقوق مدنية أساسية، وهي مكانة في نظر جابوتنسكي نفسه، لا تستحقها أي مجموعة انسانية.
في النهاية فإنه في "على الجدار الحديدي" – وهو نص يعتبر نص ايديولوجي قاس، يمكن رؤية جابوتنسكي الواقعي، المستعد للاعتراف بأنه في ظروف معينة سيكون على الصهيونية الوصول إلى تنازلات سياسية. إلا أنه من اجل رؤية ذلك يجب علينا التوجه مباشرة إلى المصدر الروسي للمقال. فهناك مكتوب بصورة صريحة أنه بعد أن تجلس المجموعات العربية المعتدلة على طاولة المفاوضات مع الصهاينة، سيبحثون معهم في "مسائل عملية مثل اعطاء ضمانات ضد ابعادهم عن البلاد، أو في موضوع الحقوق المتساوية أو بشأن الاستقلال الوطني".
اجل، كل من يفتح قاموس روسي – روسي معقول سيكتشف أن المعنى القديم، من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، لكلمة "سامو بايتنوست" (حرفيا: "واقع ذاتي"، وبمعناها اليوم "ذاتية" أو "تفرد"، التي استخدمها أعلاه جابوتنسكي والتي ترجمتها كـ "استقلال")، هي في الحقيقة استقلال، ولكن من يقرأون العبرية لن يجدوا هذا في الترجمات الموجودة لـ "على الجدار الحديدي".
المترجم المجهول الذي ترجمته لهذا المقال تظهر في كتابات جابوتنسكي التي اصدرها إبنه عيري قبل سبعين سنة، ذهل جدا كما يبدو عند رؤية مفهوم تظهر منه بوضوح رائحة تقسيم البلاد، الذي قرر ترجمته كـ "مساواة قومية" مجردة، من خلال موافقته على صورة جابوتنسكي بوصفه من لم يكن ليوافق في أي يوم على اقامة دولة عربية مستقلة في ارض إسرائيل.
بيتر كاريكسنوف الذي اصلح بصورة مدهشة الترجمة القديمة حسب المصدر، اختار هو أيضا ترجمة لها معنيين – "كيان وطني مستقل" – الذي يتساوق مع عقيدة جابوتنسكي السياسية، الذي حقا خشي من نموذج الدولة ذات القومية الواحدة السيادية، وفضل بصورة واضحة أطر سياسية متعددة القوميات.
ولكن، خلافا لصورة العقائدي المتعصب التي الصقها كاتب "على الجدار الحديدي" بالكثيرين من معارضيه، فإن جابوتنسكي جسد بشخصيته ما وصفه البروفيسور يوسف غورني في تطرقه للسياسة الصهيونية كدمج بين المثالية والواقعية. اجل، لقد حلم بارض إسرائيل الكاملة في ضفتي نهر الاردن، ولكن بالذات في النص الأيديولوجي السياسي الاساسي له لم يتردد في ضم الخيار المستقبلي للاستقلال الوطني لعرب ارض إسرائيل، ومعه الاتجاه الاساسي نحو امكانية تقسيم البلاد في المستقبل غير المنظور في زمنه. اليوم هذا المستقبل اصبح هنا – هكذا فإن الجانب المرفوض والمنكر لجابوتنسكي الواقعي، المستتر في المصدر الروسي لـ "على الجدار الحديدي" من شأنه أن يتحول آجلا أم عاجلا إلى أمر هام بشكل لا مثيل له.