الجراد يغزو قريتي

في الجنوب يعرف الناس الجراد جيدا فقد غزاهم مرارا قبل أن تنشأ العديد من المنظمات التي تعنى بالأغذية والزراعة وقبل صناعة طائرات الرش وإيجاد مراكز الرصد والمراقبة. في حالات كثيرة لم يخش الناس الجراد فالأرض قاحلة والناس جياع وفي قدومه فرصة للحصول على غذاء طيب يسهل جمعه وإعداده، فالوجبة لا تحتاج أكثر من قطع رأس الجراد وإلقاء جموعه في النار كما تلقى سبلات القمح وتناولها دون المرور إلى مراسم الطهو والشواء التي نقوم بها اليوم. الألفة الكبيرة بين الجنوبيين والجراد انعكست على أسماء الأبناء الذكور فقد انتشر اسم جراد بين مواليد نهايات القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين في كل من الشوبك ومعان والطفيلة وقرى النعيمات ووادي موسى وبين عشائر الحويطات والحجايا وبقية أبناء البادية الجنوبية. في كل من الطفيلة ومزار الكرك توجد عائلات كبيرة ومحترمة تحمل أسماء جرادات والجرادين، ما يشير إلى قصة أو قصص وذكريات للسكان والناس مع الجراد والى تكرار تواجده في المنطقة بالتزامن مع ولادة من أطلق عليهم الاسم أو لتأثر الجماعة بحدث اجتياح أسرابه لبيئتهم. لا أذكر التاريخ ولا السنة التي دخلت فيها الطفيلة في مواجهة مع الجراد، لكنها بالتأكيد في مطلع الستينيات فقد كنا أطفالا عندما اجتاحتنا الأسراب التي غطت سماء القرية، وخرجنا لملاقاتها ونحن نضرب العصي بالصحون والطناجر ونوقد النيران حول المزروعات ونحرق الآلاف من الحشرات التي أدهشنا طيرانها وهي تحمل بعضها البعض. فكثيرا ما صادفنا جرادة على ظهر أخرى دون أن ندرك فيما إذا كن في حالة تزاوج أو ينفذن أحد برامج التكافل التي سمعنا عنها لاحقا. المهم أن المشاهد ما تزال حية في ذاكرتي وقد استعدتها بالأمس وأنا استمع إلى استغاثة بعض أهلنا وهم ينبهوننا إلى دخول أسراب من الجراد إلى بلدة العيص وضانا ومناطق الطفيلة بعدما قيل لنا إن المكافحة أبادت طلائع الأسراب الغازية يوم السبت وأجهزت على ثلاثين مليون منها. حتى اللحظة لا نعرف الكثير عن أساليب المقاومة الجديدة وحجم القوة المعدة لذلك ومدى تدريبها وتجهيزها واستعدادها. لكننا نعرف جيدا أن الجنوب هذا العام ممحل مثل الاعوام السابقة والربيع انتهى فيه قبل أن يبدأ والناس لا يقوون على الوقوف في وجه المشاكل والأزمات التي تتناوب عليهم واحدة تلو الأخرى. في الطفيلة بطالة وغضب وهتافات وضجيج وفيها حديث عن التنمية الموعودة التي تطير مع دوران توربيدات توليد الكهرباء من رياحها. المدهش أن الناس أحسوا بوجود الجراد أكثر من إحساسهم بكل المشاريع التي تولدت في فضاء الطفيلة ولم تعد مستعدة لتشغيل الآلاف الذين استبشروا خيرا بها. التعليقات التي حملتها وسائل التواصل الاجتماعي متعددة ومثيرة لكن غالبيتها تربط بين طبائع الجراد وأخلاق وقيم الكثيرين ممن بشروا بالتنمية ودعوا للاصلاح وقادوا مشروعات الخصخصة وتعاملوا مع موارد البلاد، فقد تركوا المكان كما يتركه الجراد وخلفوا لدى الأهل الكثير من الخوف والقلق والخذلان. أعرف تماما أن الجراد سيذهب كما ذهبت جموعه التي غزت هذا البلد الطيب. وأعرف أننا سنتصالح مع وجوده طالما هو مقيم. وأعرف أننا طيبون حتى وإن تنفخت حناجرنا ونحن نردد "ونشرب إن وردنا الماء صفوا.. ويشرب غيرنا كدرا وطينا". فنحن لا نعني دائما ما نقول.اضافة اعلان