الجغرافيا السياسية للمرة الألف!

عمليا، يعد مفهوم النظام الإقليمي العربي في عداد الموتى منذ زمن. وينسحب ذلك على ما ارتبط به من مفاهيم فرعية، مثل الأمن القومي والأمن الإقليمي العربي، وحتى مفاهيم التعاون الإقليمي. وعلى الرغم من أن بدايات الاعتلال الواضحة لهذا النظام تعود إلى بداية التسعينيات؛ بعد الاحتلال العراقي للكويت، إلا أن السنوات الخمس الأخيرة أنهكت ما تبقى من هياكل هذا النظام، وحتى ذكرياته. واليوم، تبدو ثمة فرصة، أو ضوء في آخر النفق، لاستعادة التفكير بشكل جديد بالنظام العربي، استنادا إلى مجموعة من المتغيرات الإقليمية والدولية، أضعفها -للأسف- المتغيرات العربية.اضافة اعلان
توفر التغيرات المحتملة في المشهد الدولي، والتقارب الروسي الأميركي المتوقع في عهد الرئيس المنتخب دونالد ترامب، مع تراجع واضح في التزام بعض المشاريع الإقليمية ببرامجها في التصعيد؛ مثلما يحدث مع الأتراك، إلى المزيد من الفرص الملائمة لتصفية صراعات السنوات الخمس الأخيرة، مع احتمالات أن ينتقل العرب من قضية مطروحة على الطاولة إلى البحث عن مقعد ولو صغير حولها.
يجب القول إن الجديد في تاريخ الأفكار حول الجغرافيا السياسية للمنطقة، هو الاعتراف الضمني بثقل الهوية الثقافية للجغرافيا السياسية المطروحة، وهي الثقافة المعبر عنها بالإسلام. فالغرب يدرك تماما أن القوى السياسية المحافظة، وأحيانا المتطرفة، هي الأكثر قدرة على الحسم في الكثير من الثقافات، وهو ما حدث حتى مع الإسرائيليين. لكن هذا الحل الذي تذهب إليه سياقات الطفرة التاريخية، وهو غير مضمون في كل الحالات.
كانت لدينا خمسة أو ستة مشاريع لإعادة صياغة المنطقة. أولها، المشروع الأميركي تحت عنوان "الشرق الأوسط الكبير" الذي يحظى بمباركة ضمنية من قبل إسرائيل، ومعارضة شعبية عربية. ومشروع أوروبي لا يمكن تجاهله، يبحث عن الأمن والتنمية والهوية على ضفتي "المتوسط"، لا يحظى بترحيب أميركي، ويلاقى باحترام عربي شعبي ومدني، وبرود رسمي. وهناك المشروع الإيراني القائم على إعادة النفوذ القومي الإيراني بالاستفادة من المشاعر الدينية. وهو ما يحدث في سياقات أخرى مع المشروع التركي القائم على تحالفات سياسية-دينية لأهداف قومية. أما المشروع الخامس، والمعني بذات الجغرافيا التي يبحث عنها مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، فهو مشروع الأصولية الإسلامية؛ حيث يتعدد آباء هذا المشروع في صيغه التي ما تزال مفتوحة على احتمالات متعددة. وهناك أخيرا المشروع الروسي الذي جاء مندفعا وسريعا.
المشكلة، وربما الظاهرة التاريخية المحيرة، هي أن العرب لهم دور في كل هذه المشاريع، وكل منها وجد شركاء من بيئة النظام العربي التقليدي، ومن البيئة الجديدة بكل ما توصف به من سيولة وفوضى. ومع اقتراب انتهاء هذه الحقبة، علينا أن نلتفت إلى الوقائع التي تؤكد أن هذه المشاريع كافة فشلت أو في طريقها إلى الفشل. وحتى الإنجازات التي حققها هذا المشروع أو ذاك، كما حدث مع الإيرانيين أو الأتراك أو الروس، فإن كلفها (الإنجازات) من المنظور الاستراتيجي أعلى بكثير من حساب المصالح. ما يجعل تلك الإنجازات تحسب في باب المنجز المعنوي وليس الفعلي.
إن مصدر الصراع التاريخي على الشرق الأوسط يكمن في إغراء الجغرافيا السياسية، وما تشكله من قيمة اقتصادية مضافة لها. وفي كل حلقة تاريخية من حلقات الصراع منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، كانت مضامين وخطابات الصراع تتغير، إلا أن الجغرافيا تبقى ثابتة؛ منذ أن نشأت الحضارات الأولى في بلاد الرافدين ومصر القديمة، ومنذ أن شهد الشرق القديم أولى المدن وأولى الدول وأول النظم الإدارية وأول المقاييس والحسابات في التاريخ. منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، بقيت حسابات التاريخ وما تزال قائمة على الجغرافيا وحساسياتها ومواردها ورموزها الثقافية. وهذا ما ستثبته السنوات المقبلة حينما نرى من يعرف قراءة الخرائط.