الجلوة العشائرية مرة أخرى

خطوة ايجابية ومقدرة تسجل لعشيرة الروابدة في بلدة الصريح بإربد، بتقديمها نموذجا اجتماعيا وإنسانيا إيجابيا، بعدم تحميل عشيرة وأقارب قاتل أحد أبنائها، مسؤولية الجريمة، واكتفائها بنقل زوجة وأبناء المتهم بالقتل إلى مكان بعيد عن منزل ذوي الضحية، ومنح العطوة العشائرية لحين نطق القضاء بالحكم.اضافة اعلان
العطوة العشائرية التي تمت قبل يومين لم تلجأ فيها عشيرة الروابدة إلى طلب إجلاء عشيرة وأقارب الجاني عن بيوتهم ومناطقهم، ما منع تسجيل كارثة اجتماعية وإنسانية جديدة، تعيش مثلها الكثير حاليا عائلات وعشائر، لم يكن ذنبهم سوى أنهم من أقارب أو عشيرة أحد الجناة، ما فرض عليهم الوقوع تحت نير الجلوة وعذاباتها التي تطول أحيانا لسنوات عديدة!
النموذج الذي سجل في الصريح كان إيجابيا ويستحق الإشادة من قبل الجميع، وهو نموذج نتمنى أن يتم تعميمه والأخذ به من قبل مختلف العائلات والعشائر، عند حدوث جريمة يرتكبها فرد في لحظة إجرام أو استهتار، ومن دون أن يعود لمشاورة أهله وعشيرته.
لا يمكن استمرار حالات تشريد عشرات أو مئات، وأحيانا آلاف الأشخاص، رجالا ونساء وأطفالا، من بيوتهم ومناطقهم وأماكن عملهم ورزقهم، بسيف الجلوة العشائرية والعادات الاجتماعية. والأدهى أن ذلك يتم تحت سمع وبصر القانون والمؤسسات الرسمية، بدعوى الاضطرار له لحقن الدماء وتهدئة خواطر أهالي الضحية، والتزاما بالعرف الاجتماعي! ضاربين عرض الحائط بسيادة القانون ودولة القانون والمؤسسات، بانتهاك حقوق دستورية لعشرات أو مئات المواطنين فقط لمجرد ارتباطهم بصلة دم بقاتل.
إحصاءات وزارة الداخلية التي أعلنت مؤخرا تتحدث عن وجود نحو 300 نزاع عشائري قائم حاليا، منها العشرات تتضمن جلوات، ضحاياها مئات وآلاف المواطنين، الذين خضعوا بحكم هذا العرف العشائري السلبي إلى "اللجوء" داخل وطنهم، وبعيدا عن منازلهم ومدارسهم وأراضيهم وأشغالهم.
وبدلا من تسريع الحكومة بإقرار التشريع المقترح الجديد، بقصر الجلوة العشائرية على عائلة القاتل الصغيرة (الأب والأبناء والإخوة)، وعدم شمولها أقارب الجاني حتى الجد الثالث، تلجأ هذه الحكومة، عبر نائب رئيس الوزراء وزير التربية والتعليم، إلى إقرار توسيع الجلوة إلى الجد الخامس، كما جرى في آخر جلوة بالكرك قبل أسابيع!
تحاول الحكومة وأجهزتها تبرير مباركة الجلوات العشائرية والقبول بها، رغم أنها تكون في الغالب متعسفة وتطال بمعاناتها شريحة واسعة من المواطنين، بأنها تكون الحل الوحيد لحقن الدماء بين عشيرتي الجاني والمجني عليه، ولعدم قدرة الشرطة وأجهزة إنفاذ القانون توفير الحماية لأقارب وأفراد عشيرة الجاني. أعتقد أن هذا العذر أقبح من الذنب، وفيه تهرب من المسؤولية وفرض سيادة القانون، وتفريط بحقوق دستورية وإنسانية لعشرات ومئات المواطنين، لا يجوز أن تقع بحجة قلة الامكانات الشرطية او عدم القدرة على توفير حماية امنية طويلة لمنازل واشغال اقارب الجاني.
التأسيس لاجتثاث وتقليص ظاهرة الجلوة العشائرية، والتعسف باستخداماتها، يحتاج لقرارات حاسمة من قبل مؤسسات انفاذ القانون، وقبل ذلك ايمانا من قبل المسؤولين بضرورة تطبيق واجباتهم بفرض القانون وحماية الابرياء تحت كل الظروف. فيما يتم اسناد كل ذلك بتشريع قانوني وتعليمات قانونية واضحة ومتقدمة مستمدة من احكام الدستور، لا القانون العشائري، تفرض بقوة القانون الغاء مفهوم الجلوة، او على الاقل التعسف بهذه الجلوة، كما هو حاصل حاليا في أغلب القضايا.
نحتاج لتعميم نموذج عشيرة الروابدة في الصريح، وغيرها من عشائر وأقارب لضحايا يقدمون نماذج اجتماعية وإنسانية وحضارية مهمة. لكن نحتاج، في نفس الوقت، لمسؤولين ومؤسسات رسمية وحكومة، لا يتهربون من مسؤولياتهم بتطبيق القانون وسيادته، وحفظ الحقوق الدستورية والإنسانية لمواطنين، لا يكون ذنبهم سوى صلة الدم بجانٍ لم يشاورهم بارتكاب جريمته.