الحاجة إلى الابتكار السياسي

ربما تشكل الحالة التنموية الأردنية في بعدها السياسي والاقتصادي منذ تمأسس الدولة واحدة من اكثر الحالات قدرة على التكيف مع الازمات وإدارة التغيير، وواحدة من اكثر الحالات ضعفاً في بناء التراكم، والنتيجة التي يصل إليها أي باحث ان الدولة الأردنية التي بدأت بالتمأسس (أي أن نشأة الكيان ارتبطت بنشأة المؤسسية)، قد أخفقت في مأسسة التغيير باعتباره حالة مستمرة لا تتوقف، أي عملية إحياء وتجديد داخلي دائمة، يُفسر ذلك احيانا بالخضوع طويل الامد لقوانين الأزمة، دائما ثمة ازمات في الافق وازمات منتظرة ، وفشل مبرر بالازمات.

اضافة اعلان

يدرك الجميع حجم الازمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد منذ اكثر من عامين، والتي شكلت في بعض فصولها استمرارية لاختلالات مزمنة، ولكن المسكوت عنه والذي نادرا ما يتم التطرق اليه هو حجم التأثيرات والانعكاسات المنتظرة لمئات القرارات والسياسات التي تتخذ وتمارس تحت وطأة الازمة وظروفها ومحدداتها، ولا تأخذ بعين الاعتبار المصالح ومسارات التطور على المدى البعيد.

عادة ما يتم التحذير من التفكير او اتخاذ قرارات تحت وطأة الازمة وتأثيرها، لذا يتم التمييز بين التكيف الإيجابي مع الازمات الذي يتطلب مهارات خاصة في مجالات ادارة الازمات ومتابعة تأثيراتها وتعبيراتها في المجالات الاجتماعية والسياسية وبين الادارة من خلال الازمة؛ أي أن يصمم عقل الدولة على اساس الازمة بحيث تلقي بظلالها على القرارات والسياسات، وتصبح شرطا مسبقا في كل سياسة او قرار.

كل يوم نسمع من المسؤولين وصناع السياسات تعبيرات تدل على انماط متعددة من منهج التفكير تحت وطأة الأزمة، حينما تصبح مؤسسات الدولة منقادة بالعصي للأزمة وليست المؤسسات هي التي تقود الأزمة كما يفترض، لذا نسمع في كل مناسبة على سبيل المثال: لا تنسوا الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد، ان الوضع الاقتصادي الراهن يشكل الأساس لاتخاذ هذه القرارات او تلك، هذه الخطة راعت الظروف التي تقتضيها الأزمة الاقتصادية، عجز الموازنة يعني وقف التعيينات في مختلف مؤسسات الدولة، وقف مشاريع البنية التحتية والمشاريع الانمائية في مختلف القطاعات وهكذا!.

ما يقود الى التفكير في منجم الابتكارات السياسية التي قد تتطلب احيانا بعض الاستدارات السياسية بحثا عن الحلول طويلة المدى، أن الابتكار السياسي واحد من سمات أساسية للتنمية والاستقرار إلى جانب عوامل اخرى اهمها قدرة السلطة على الانتشار وبناء المؤسسية وفاعلية النظام، فكل ابتكار سياسي او اجتماعي جديد قد يحدث اختلالا في توازن النظام، الأمر الذي يتوقف على مضامين وسمات الابتكار الجديدة، وهو اختلال يحدث في كل النظم ونتيجة طبيعية ويجب توقعها، فسرعة وعمق التغيير من شأنه إحداث تغييرات واختلالات تتفاوت حسب المقدرة المؤسسية، وهذا ما يميز النظم السياسية المستقرة عن النظم غير المستقرة.

علينا ان نتذكر دائما ان اعظم الابتكارات السياسية في التاريخ الحديث والمعاصر قد خرجت من صلب الأزمات الطاحنة والمعتركات المعقدة، وعلينا ان نتذكر دائما ان الاصل في الحلول الاقتصادية والاجتماعية يكمن في الابتكارات السياسية التي تتجاوز الانشغال في السياسة اليومية وتملك القدرة على صنع واتخاذ القرارات الكبيرة وقادرة على خلق تكيف مجتمعي يمتص الآلام التي قد يأتي بها التغيير، الابتكار السياسي حاجة ملحة ومصيرية حينما تصل الدولة والمجتمع الى لحظة يباس قديم يموت ويذهب إلى الزوال وجديد لم يولد بعد!