الحاسة الأولى..

كنّا نحسبُ، بسذاجة الأطفال، أنَّ قوّةَ الشّخصيّة مرتبطةٌ ارتباطاً شرطيّاً بالصّوت العالي… ذاك الضّجيجِ الذي اعتدنا على تقبّله بطواعية وخنوعٍ واستسلام من أولياء الأمور، ومن المدرّسين، ومعظم عابري السّبيل في حياتنا، ثمَّ كبرنا ونضجنا لنكتشفَ أنَّ الصّوتَ العالي ليس إلا مؤشّر على هشاشة الشّخصيّة، وركاكة الحُجّة، والإحساسِ بالنّقص… ممّا يعني دليلاً ساطعاً على الضّعف، وليس على القوّة! رغمَ ذلك كلّه، فما تزال في ذاكرتنا أوهامٌ جمعيّة عن أنَّ لطبقة الصّوت العالية قدرةً على التّأثير… لعلَّ أوّلها في خطاباتنا النّارية، وآخرها في بعضِ إعلاناتنا التّجارية التي تعدُّ خيرَ دليلٍ على ما سبق، مثالٌ عليه، ذلك المكتب السّياحي الذي يستهلُّ إعلانَه بأغنيةٍ جميلة توصل الرّسالة بالسّلاسة المطلوبة، ثمَّ ليُختمَ الموضوعُ بأحدهم يصفعُ سمعَك عبر تعديد الوجهات السّياحية المستهدفة بصوتٍ صاخب مزعج، ونبرةٍ مفتعلةٍ مدوّية… لينتهيَ الأمرُ بأن تُقرّرَ أنت المستمعُ عدم التّعامل مع هذا المكتب تحديداً! إحدى إذاعاتنا المحلّيّة، تقرّرُ أحياناً بثَّ أغنياتٍ قديمة بصوت مطربين جدد، مبادرة لا جدوى منها سوى أنّها تقترفُ جريمتين في آنٍ معاً؛ الأولى، أنَّ لا أصواتَ هؤلاء ولا إحساسَهم يرتقي إلى السّابقين مهما بُذلُ من جهد… إذ خشيتُ، ذات مرّة، أن ينقطعَ صوتُ إحداهن كخيطٍ واهٍ وهي تؤدّي مقطعاً غنائياً لفنّانةٍ قديمة اعتدنا أن نسمعَه يخرجُ من حنجرتها ببساطة وجمالٍ وعذوبة… وأخرى خلتها تعاني من آلام ولادةٍ متعسّرّة وهي تؤدّي مقطعاً صغيراً من إحدى أغنياتِ كوكب الشّرق! أمّا الجريمة الثّانية، فهي أنَّ التّجربة، في محصّلتها، ليست إلا إضافةً غيرَ محمودة للتّلوّث الضّوضائي الذي يحيطُنا أينما اتّجهنا! والأمرُ لا يختلفُ كثيراً مع بعض إعلامياتنا على إذاعاتنا، وعلى شاشاتنا المحليّة، لتستنتجَ أنَّ لا فكرة لديهنَّ عن همزتَيْ القطع والوصل، إذ يلفظنها قطعاً طوال الوقت، فتسمعَ إلقاءً مثل قرع الطّبول على الرّؤوس، خاصّة مع لفظ الألف في « ال» التّعريف قطعاً، في حين لا يجوز أن تُلفظ أبداً في وسط الكلام، حرف « ل» يُلفظ إذا كانت الكلمة قمريّة، ولا تُلفظ بدورها في الكلمات الشّمسيّة، لكنَّ حرف الألف في « ال» التّعريف هو بهمزة وصل، لذلك، فلا يُلفظ وسط النّص بهمزة قطع أبداً… أبداً… أبداً! ومع اعتذاري عن التّكرار، فما سبق ذكره، ليس درساً في الّلغةِ العربيّة، بقدْر ما هو درسٌ في الموسيقا… الموسيقا السّاحرة لّلغة التي حوّلناها إلى صخبٍ يفتكُ بالأعصاب كلَّ يوم! نعرفُ أنَّ قناة « رؤيا» المحترمة، تعقدُ دوراتٍ عديدةً في إعداد المذيعين وتأهيلهم، ماذا يمنع لو أضافت تلك المهارات الحيوية الضّرورية فيما تقدّم؟ ابتداءً من حسن النّطق لحروف العربيّة التي تفخّم وتُنعّم على ألسنة الصّبايا الجميلات دون داع، وانتهاءً بهمزتي القطع والوصل بما يُنصفُ الّلغةَ العربية… ويريحُ أسماعَ خلقِ الله من المتابعين الصّابرين المرابطين! لقد أثبت العلمُ أنَّ حاسّة السّمع هي أوّل حاسّةٍ تتكوّن في الإنسان، وآخر حاسّةٍ تفارقُه بعد أن يلفظَ أنفاسَه الأخيرة… ولك أنْ تتخيّلَ كم من الفظاعات تعاني منها آذانُنا ما بين الميلادِ والموت! المقال السابق للكاتبة للمزيد من مقالات الكاتبة انقر هنااضافة اعلان