الحب الممكن والزواج المستحيل

مازالت أم كلثوم وبعد ثلاثين عاما على رحيلها وبرغم تغير العرب وأذواقهم واجتياح موجة الإعلام الجديد بثقافته المرافقة، رمزا من رموز الحضارة والثقافة العربية. وقد كان لكتابات أظهرت معلومات جديدة عن حياة أم كلثوم الشخصية وبينت مدى التعقيد والصعوبات التي واجهتها في حياتها واختياراتها الشخصية لمجرد أنها أصبحت شخصية عامة تراها الأمة ملكا لها وليس لها الحق الكامل في اختيارها وأسلوب حياتها.

اضافة اعلان

وقد كشف كتاب "أنا والعذاب وأم كلثوم .. محمود الشريف" من تأليف طارق الشناوي الذي صدر في القاهرة العام الماضي أبعادا جديدة مشوقة في دراسة الشخصيات العامة، فقد أحبت أم كلثوم الملحن "محمود الشريف" وكان متزوجا، بعد لقائهما معا عام 1946، وغنت له بمفرده "إن كنت أسامح" فكان هو المستمع الوحيد لصوتها في تلك الليلة التي لم ينسها أبدا ولم تنسها أيضا أم كلثوم، فقد أحبته بما يقترب من التهور، وفضلته على جميع الكتاب والملحنين والأمراء والأثرياء والسياسيين الذين كانوا يدورون في فلكها كالكواكب والأقمار في المجموعة الشمسية، وبعد أسابيع من لقائهما نشرت صحيفة أخبار اليوم نبأ زواجهما بتاريخ 7 كانون اول/ ديسمبر عام 1946.

كانت أم كلثوم تزور محمود الشريف في بيته وأقامت علاقة صداقة مع زوجته فاطمة، وكانا يلتقيان أيضا في بيت أخيه بالإضافة إلى دارتها في الزمالك، وفي الوقت الذي كان الشريف يرى في صوتها وشخصيتها إلهاما لفن عبقري فقد غرقت أم كلثوم  في حالة عاطفية بعيدة عن الفن، وشعرت أنها وجدت أخيرا الرجل الذي تبحث عنه، الرجل الذي يفرض سلطانه عليها، لدرجة أنها عندما سألها الصحفي الكبير "مصطفى أمين" هل ستعتزل الغناء بعد زواجها من الشريف قالت: الأمر له وما يريد، وهكذا استسلمت أم كلثوم بهذا الخضوع المطلق للرجل الذي أحبته، واستعدت أن تضحي لأجل حبها بذلك شيء، وقبلت أن تهدي صوتها لرجل واحد فقط، هو محمود الشريف.

ويبدو أن هذا الكلمات أثارت الرأي العام والقصر (كانت مصر في الفترة الملكية) والوسط الثقافي والفني ورأت في محمود الشريف غريمها وخصمها.

أحمد رامي الشاعر الذي كتب مئات الأغاني لأم كلثوم خرج هائما يلبس البيجاما، وركب القطار وهو لا يعرف إلى أين يمضي، ولا يدرك أنه بملابس النوم، وزكريا أحمد الذي جاء إلى دارة أم كلثوم لإجراء بروفة عمل معها وأخبرته مدبرة المنزل أن أم كلثوم تعتذر، انهال بالشتائم على أم كلثوم ومحمود الشريف، والقصبجي اقتحم الفيلا ومعه مسدس يريد أن يقتل الشريف.

والقصر الملكي الذي أنعم على السيدة أم كلثوم بلقب "صاحبة العصمة" تدخل لمنع الزيجة، وأرسل خال الملك فاروق "شريف صبري" تهديدا مباشرا لأم كلثوم. لقد كانت أم كلثوم حلم كل مصري وعربي، وكان الحل هو الاتفاق والتواطؤ على ألا تكون لأحد، وتبقى عشقا مستحيلا على أن تكون ممكنا لأحد أي أحد، برغم ما في ذلك من عذاب لها وانتهاك لخصوصيتها وحقوقها ومشاعرها.

تزوجت أم كلثوم فيما بعد من الدكتور حسن الحفناوي (عام 1953)، وظل محمود الشريف يضع كل مشاعره في ألحانه، ويتوزعه حب مقدس لزوجته فاطمة وعشق لصوت أم كلثوم، وملهمته "فردوس" الشابة الفقيرة التي انتشلها من الضياع، وكان يجد في شقتها الصغيرة فرصة لإتمام أعماله لا يجدها في دارة أم كلثوم.

وصدر أيضا في بيروت العام الماضي كتاب "أم كلثوم، السيرة" من تأليف إلياس سحاب، والذي يؤكد استمرار الحاجة والرغبة في فهم ظاهرة أم كلثوم التي هيمنت على مصر والعرب، وأزاحت نجوم الغناء وسادته على نحو يحمل أحيانا طابعا مأساويا كما حدث لمنيرة المهدية سلطانة الطرب قبل أم كلثوم.

كان لأم كلثوم مزايا هائلة وفريدة، الازدواجية الريفية – المدنية هي التي عصمت أم كلثوم عند وصولها إلى قمة الهرم الاجتماعي وانخراطها في علاقة أفقية ورأسية مع جميع طبقات المجتمع وفئاته، والمشاعر الدينية والوطنية والعاطفية، وسلوكها الاجتماعي والشخصي، وتعاونها مع ملحنين ومؤلفين كبار وشباب جدد مبدعين وغيرها جعلتها تحول مسار الموسيقى والأغنية العربية، وتقدم مغامرات وتجارب موسيقية وغنائية جديدة وجريئة، ولكن ثمة وجهة نظر متطرفة أخرى لكمال الطويل مفادها "إن أم كلثوم كانت أجمل عقبة في طريق تطور الموسيقى العربية". 
واليوم ونحن في شغل في فهم القرن العشرين الذي ما تجاوزناه ولم نتجاوزه فإن النهضة الموسيقية  الغنائية التي رعتها مصر وعمت أرجاء الوطن العربي تغري بالسؤال والتفكير لأنها تساعد في إدراك الوجهة التي نمضي إليها، فالغناء يؤشر على المرحلة وعلى المستقبل أيضا.

وقد يكون من التسطيح أن نصف المشهد العربي اليوم بأنه تحت هيمنة دون كيشوتات أبو مصعب الزرقاوي ومؤخرة روبي وصدر هيفاء وهبي لكنه يحمل كثيرا من الرغبة في العودة والاتجاه إلى الأصالة التي لا تمتلك الفرصة الكافية في حالة الإغراق الإعلامي غير البريئة تعبر عنها النجاحات المتبقية لفنانين قدماء وجدد مثل فيروز ومحمد عبده أو فريدة مغنية المقام العراقي الشابة، والاهتمام بكتب وسيرة أم كلثوم، واستعادة الفن الأصيل في الإنترنت والدراسة والاهتمام يؤشر على رغبة في استعادة الذات والخروج من الأزمة.

وربما لم يمكن مصادفة أنه في الشهر الذي عرضت فيه مجلة (وجهات نظر) الكتابين السابقين فإن الشاعر والدبلوماسي اللبناني جودت نور الدين نشر قصيدة يتذكر المغنية الأميرة السورية المصرية أسمهان.

 قبل أن تشرق فينا أسمهان خير وصف لجمال الصوت كان:
هو صوت من ذهب
ولدى أن صدحت صاح الزمان:
يا لثارات الذهب
غير أني اليوم إذا أهفو إلى صافي الطرب
في بلادي
يتولاني الغضب
والنصب
ثم يحدوني التمني
فأنادي
ليت للبراق عينا فترى
خلت الساحة من صوت سماوي
خلو الساحة من سيف يماني
لم أعد أسمع إلا صخبا فوق صخب
فوق جلب
قد تشكت منه أوتار الكمان
واستغاث العود وانشق القصب
وأراني
بعد أن غاب العيار الأسمهاني
أتعزى بالذهب.