"الحب في زمن الحرب".. سنواتي مع روبرت فيسك

مزارع يقوم بحراثة أرضه - (أرشيفية)
مزارع يقوم بحراثة أرضه - (أرشيفية)

جانين دي جيوفاني – (فورين بوليسي) 2/1/2022
ترجمة: علاء الدين أبو زينة

المراسلون الصحفيون الأيقونيون، مثل فيسك والمراسل البولندي ريزارد كابوسينسكي -الذين جابوا إفريقيا وأميركا الوسطى والاتحاد السوفياتي السابق مع ما لا يزيد كثيرا عن حقيبة الظهر والكثير من الشجاعة- لا يتكررون كثيرا، وفرص السير على خطاهم تتضاءل.

اضافة اعلان

الآن حلت الالتقاطات السريعة والتحليل بينما يجلس الصحفي في كرسي بذراعين محل القصص الطويلة التي كانت تُكتَب بعمق ومن على الأرض…

ربما كان "كوفيد 19" هو المسمار الأخير في نعش الصحفي المتجول، ولكن حتى قبل الوباء، كانت مخاطر التعرض للاختطاف، والسجن، والقتل تجعل حياة المراسل من مواقع الحرب أكثر خطورة…

في كتابها الجديد الرائع، تؤرخ الصحفية لارا مارلو قصة حب مستحيلة على خلفية الحرب والصحافة.
بطاقة الكتاب:
Love in a Time of War: My Years With Robert Fisk, Lara Marlowe, Head of Zeus, 448 pp, October 2021

* *
كما يعلم قراء إرنست همنغواي، يمكن أن تكون الحرب منشطا قويا للعواطف والرغبات الحسية. وفي كتابها "الحب في زمن الحرب: سنواتي مع روبرت فيسك"، تروي المراسلة الصحفية الخارجية الفرنسية – الأميركية، لارا مارلو، السيرة الذاتية لمراسلَين صحفيَّين وعلاقة حبهما القوية والعاصفة على خلفية الحرب القاسية والخطيرة.


وتمتد قصة حبهما لعقود، منتقلة عبر الشرق الأوسط والبلقان، بينما يُرسل الاثنان تقاريرهما الصحفية، ويتجادلان ويحبان -باختصار، يعيشان الحياة حتى ثمالتها؛ يشربان، ويكتبان، ويقابلان أمراء الحرب على خلفية معارك الخطوط الأمامية -عندما لا يكونا في فترحة استراحة في باريس أو دبلن.

كان الزوجان جزءا من قبيلة صحفية كانت تسمى في ذلك الحين "رجال الإطفاء"، حين كانت المؤسسات الإعلامية تُرسل إلى صحفييها في أي لحظة إشعارًا تكلفهم فيه بتغطية بقعة ساخنة.

وبمعنى ما، يتألف الكتاب من شيئين في واحد: مذكرات عن مسيرة مارلو الصحفية؛ وتحية إشادة مؤثرة لرجل أحبته وأجلّته.


كان فيسك، الذي توفي في العام 2020، رمزًا سامقاً للصحافة البريطانية.

وكان كثيرًا ما يقول لمارلو: "لا يمكنك الاقتراب من الحقيقة دون أن تكوني هناك". كان بهيجاً، متعجرفًا، فصيحًا، مع كومة من جوائز الكتابة، وكان أيضًا زئبقيًا ومعقدًا.

أثناء عمله كمراسل لصحيفة "تايمز" اللندنية، ولاحقًا "الإندبندنت"، نشر تقارير رائعة عن الحروب في أيرلندا الشمالية، ولبنان، والعراق، وإيران، والبوسنة، وأفغانستان والأراضي الفلسطينية.

وكانت قصته الكبيرة الأولى عبارة عن سلسلة تكشف سجل الأمين العام للأمم المتحدة في ذلك الحين، كورت فالدهايم، كضابط نازي خلال الحرب العالمية الثانية.

وفي وقت لاحق، كان فيسك واحداً من الصحفيين الغربيين القلائل الذين أجروا مقابلات مع أسامة بن لادن.


كمتحدث باللغة العربية وكاتب شغوف، كتب فيسك مقالات تصدرت الصفحة الأولى.

. وحصل على عدد هائل من المتابعين: كان معجبون يقصّون قصصه من صفحات الجرائد ويكتبون إليه رسائل مُحبة صادقة.

وقد استطاع تصوير معاناة الفلسطينيين في مذبحة مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين (وهو ما اعتبرته مارلو "اللحظة الحاسمة" في حياته المهنية)، أو معاناة المدنيين البوسنيين خلال حروب البلقان، بعين حادة بينما يرفقها بتقديم تحليل عميق رزين.


في السنوات اللاحقة، ألحق فيسك الأذى بسمعته من خلال تعاطفه مع الرجل السوري القوي، بشار الأسد.

وخلال الحرب الأهلية الوحشية في ذلك البلد، اندمج فيسك مع جيش الرجل وأصبح مدافعًا عن فظائعه.


ومع ذلك، سوف تسجل أسطورة فيسك في التاريخ الصحفي، إن لم يكن لشيء فبفعل كتاب مارلو على الأقل.

كان كل مراسل صحفي عاش في العصر الذهبي للصحافة الأجنبية (الكتابة للصحيفة من الخارج) يعرف شخصًا مثل فيسك -راويةَ قصص لامع لديه القدرة على الكتابة بسرعة وبشكل جميل.

لكن وصف مارلو لهذا النموذج الصحفي يتسم بقدر من الرومانسية أكبر بكثير.


لم تكن مارلو مجرد ذلك الشريك الموجود في الخلفية.

عندما التقيا في دمشق في العام 1983، كانت تعمل مراسلة لشبكة "سي بي إس"؛ تتحدث الفرنسية بطلاقة وتغطي سورية في عهد حافظ الأسد. وقد غمرتها كياسته.

يكتب إليها فيسك من سراييفو المحاصرة: "حبيبتي المحبّة، الشجاعة والجميلة".

وكانت رسائله آيات في الشغف: كان يدعوها ملاكَه، وجمالَه، وحبَّه. ومن السهل معرفة سبب وقوع مارلو في الحب بهذه القوة.


تركت زوجها الأول والخدمة الخارجية الأميركية لتنضم إلى فيسك في بيروت في ذروة الحرب الأهلية اللبنانية.

وكانت تكافح من أجل إعالة نفسها ككاتبة مستقلة، في حين أن فيسك، الذي كان راسخاً كمراسل صحفي بحلول ذلك الوقت، متمتعاً من الراحة التي يصنعها وجود حساب مصرفي ممتلئ ومبطن للمصاريف.

كما أنها كانت تكافح من أجل الوصول إلى المكان الذي تطمح إليه كمراسلة صحفية، ولم يكن هذا المسعى سهلاً مع شريك أناه عملاقة مثل فيسك.


كتبت مارلو عن سنواتهما الأولى: "إذا كان هناك ظل على سعادتنا، فهو الإحباط المهني الذي يخيم علينا مثل مرض بسيط".

عملَت أولاً في مجلة "تايم" وأصبحت في نهاية المطاف في كادر هيئة تحرير صحيفة "آيرش تايمز"، وهو المنصب الذي ما تزال تشغله حتى اليوم، وفازت بجوائزها الخاصة ووجدت مكانها الخاص في الصحافة الذي يحظى باحترام كبير.

وكان عملها في الكشف عن الفظائع الفرنسية خلال الحرب الجزائرية بمثابة بداية جديدة، واستمرت في العمل بلا توقف، لتكتب من الصومال، والسودان، والبوسنة، وكوسوفو -ومن أي مكان يدور فيه صراع ومعاناة تستوجب توصف.


ولا تقول مارلو ذلك، لكنني سأفعل: أن يكون الفرد امرأة، وأن يعمل جنبًا إلى جنب مع رجال مفرطين في الكاريزمية مثل فيسك، في بيئة شديدة الذكورية مثل الحرب ليس بالأمر السهل.

ومثل كل أفضل قصص الحب التي تغذيها العاطفة، يكون مقدّراً للرومانسية أن تنهار. ثمة علاقات عاطفية على كلا الجانبين.

وتحكي إحدى القصص المؤلمة عن ذهاب فيسك إلى الصحراء السعودية مع مصورة فرنسية جذابة تأتي لاحقًا لتناول العشاء في منزل مارلو وفيسك وتكتب بمرح في دفتر الضيوف: "روبرت، لقد "فعلتَها" معي حقا، وأنت يا لارا، أنت المرأة في منتصفها".

كان ذلك غامضا، لكن مارلو تشك في الأسوأ.


على الرغم من هذه الأحبولة، تزوجا أخيرا في العام 1997، بعد سنوات عديدة من بدء قصة حبهما. ويتساءل المرء عن السبب في أن ذلك استغرق وقتا طويلا، لكن فيسك وصف أولئك الذين يعيشون ويعملون في البلدان التي مزقتها الحرب بأنهم "مشوهون بطريقة غير مرئية".

وهو وصف مناسب للشياطين الشخصية والعقبات الخاصة.


الألم، والشك، والجدالات تتبعها الورود والمزيد من الرومانسية.

لكن هذا لا يدوم. في العام 2000، يعود "فيسكي" من رحلة إلى باكستان ويلتقي بمارلو في مطعم مفضل في باريس.

وفقط من رؤية وضعه الطروب، تستنتج مارلو على الفور: "إنه واقع في حب أحد ما، وهو ليس أنا".

وتصف مارلو بطريقة مجنونة رفض فيسك مسامحتها على علاقة عاطفية قبل سنوات عديدة حتى بينما يعيش هو علاقة بدوره.

بل إنه يصر الآن على أن تكون مارلو صديقة للمرأة الأخرى.


تقتبس مارلو من الكاتب الفرنسي العظيم لويس أراغون: "ليس هناك حب سعيد". وعندما ينكسر هذا الحب أخيرًا، ينكسر معه قلب مارلو، لكنها تظل رقيقة ومتماسكة.

ويمضي فيسك ليتزوج من المرأة الأخرى، لكنهما يواصلان العمل معًا، وعلى الأخص أثناء فترة سقوط الرئيس العراقي صدام حسين وما تلاه.


كان اجتماعهما الأخير، عن طريق الصدفة وبشكل مؤثر، في مطار دبلن، وكان كلاهما عائدين من باريس.

وهناك، يأتي ثقل سنواتهما معاً مسرعًا. وكانت مارلو قد نقلت عن أراغون في مكان سابق من الكتاب قوله: "أحملك بداخلي مثل طائر جريح".

وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي ترى فيها فيسك على قيد الحياة.

* *
من نواح عديدة، يقدم كتاب "الحب في زمن الحرب" أيضا شهادة على نوع من الصحافة لم يعد موجودا: صحافة المراسل الأجنبي الحر الذي يذهب إلى مناطق الحرب ببضع مئات من الدولارات ودفتر ملاحظات.

وعلى الرغم من الحقيقة القاتمة التي كانوا يصفونها، فقد كانوا يحبون موضوعاتهم وعملهم. "تظاهري بأنك تكتبين إلى صديق"، كان فيسك يدرِّب مارلو في وقت مبكر. "الصحافة متعة".


المراسلون الأيقونيون، مثل فيسك والمراسل الصحفي البولندي ريزارد كابوسينسكي -الذين جابوا إفريقيا وأميركا الوسطى والاتحاد السوفاتي السابق مع ما لا يزيد كثيراً عن حقيبة الظهر والكثير من الشجاعة- يأتون متباعدين، وفرص السير على خطاهم تتضاءل.

الآن حلت الالتقاطات السريعة والتحليل خلال الجلوس على كرسي بذراعين محل القصص الطويلة التي كانت تُكتَب بعمق ومن موقع الحدث.


يصف كتاب مارلو عالمًا قديمًا شبه ضائع من الصحافة على الأرض: "كوني كاميرا، وكوني آلة. … فقط سجّلي"، كانت مارلو تقول لنفسها بينما تعمل في المهمات الأكثر بشاعة. "دفتر ملاحظاتي وقلمي هما عوامة النجاة في مستنقع العذاب والموت".
ربما كان "كوفيد-19" هو المسمار الأخير الذي يُدق في نعش الصحفي المتجول.

ولكن حتى قبل الوباء، كانت مخاطر التعرض للاختطاف، والسجن، والقتل تجعل حياة المراسل الحربي أكثر خطورة. في العام الماضي، نشرت "لجنة حماية الصحفيين" تقريرها السنوي الذي جاء مصحوباً برسالة قاتمة: أصبح الصحفيون يُسجنون بسبب عملهم أكثر من أي وقت مضى. وبحلول 1 كانون الأول (ديسمبر)، كان 24 صحفيًا قد قُتلوا في العام 2021.


"الحب في زمن الحرب" كتاب جميل، يؤرخ قصة شخصين شكلت علاقتهما ومسيرتهما المهنية صحافة عصر مختلف. وهو مليء بالألم والشوق، وإنما أيضًا بالفرح والمغامرة والإثارة.

ولأنني عشت أنا نفسي حبي الشخصي في زمن الحرب، فإنني أفهم استنتاج مارلو: الحياة التي نعيشها في أكثر أحوالها تطرفاً هي أكثر أنواع الحياة مكافأة للذات.


*Janine di Giovanni: كاتبة عمود في مجلة "فورين بوليسي"، وزميلة بارزة في معهد جاكسون للشؤون العالمية بجامعة ييل، وحائزة على العديد من الجوائز الصحفية، ومؤلفة كتاب "الاختفاء: الإيمان، الخسارة، وغروب المسيحية في أرض الأنبياء" The Vanishing: Faith, Loss, and the Twilight of Christianity in the Land of the Prophets.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Love in a Time of War