الحب والحزم لا يفترقان

يحتاج الطفل إلى المحبة المتوازنة التي لا إسراف فيها ولا تطرُّف لدرجة الدلال-(أرشيفية)
يحتاج الطفل إلى المحبة المتوازنة التي لا إسراف فيها ولا تطرُّف لدرجة الدلال-(أرشيفية)

عمان- حاجة الطفل إلى المحبة حاجة نفسية أساسية، فهو يريد أن يشعر بأنه يُحِبّ ويُحَبّ فلا تربية بغير محبة، لكنها تلك المحبة المتوازنة التي لا إسراف فيها ولا تطرُّف لدرجة ما نسميه (دلالا)، وبقدر ما نشجع على المحبة نُحذِّر من التسلط لأنه يولد القهر والذل والإحباط، وعلى أية حال فإن محصلة التطرف في كلا الاتجاهين واحدة، وهي شخصية مهتزة لا تتوفر لها عناصر التكامل، فهي شخصية اتكالية تنتظر من والديها أن يرسما لها خطوط سيرها، وهي عاجزة عن اتخاذ أي موقف أو قرار.اضافة اعلان
لذا، فمن الضروري أن يقترن الحب بالحزم، فبتلازمهما تتوطد دعائم شخصية طفل متوازنة، واثقة من ذاتها، تتقبل المسؤوليات راضية ومعتزة بإمكاناتها، تتمتع باستقلالية تؤهلها لمواجهة مطالب الحياة وتحدياتها بصلابة واقتدار.
فكيف نتعامل مع القاعدة التربوية "الحب والحزم لا يفترقان" لنضعها في مسارات سليمة تبني شخصية الطفل؟.
لا مجال للارتياب في عواقب التطرف في التربية، فالقسوة تجعل الولد يعاني من ذُلِّ السيطرة الكاملة، ومناخ التربية الأُسرية، مع هذا الواقع، يكون بارداً جامداً يعاني فيه الولد من الخوف والارتعاش الدائم وترقب النقد والتقريع وربما العقاب، وتداس شخصيته تحت وطء قناعات السلطة الأَبوية وأَخطائها، وينشأ عن هذا الضغط، غير المحتمل إنسانياً، الاستسلام والخضوع، والاضطراب العقلي وشحن النفوس بالحقد.
أما الموقف الآخر، وهو موقف الدلال والتراخي الكلي، فلا يقل عن الأَول ضرراً مأساوياً، وفي مثل هذه الحالة يكون الولد سيِّد نفسه، ولا يطيع أَيّا من أبويه، ولا يتقبل توجيهاتهما، ولا يستجيب لنواهيهما، بل يرفض كل هذا بعناد، ويفرض رغباته على كل من في البيت لتجاب دون اعتراض، ويصبح وكأنه الحكومة المنزلية التي تسلب الوالدين سلطتهما، وتقف بتحدٍ قائلة أنا السيد في هذا البيت؟ وأنا صاحب الأَمر! ولا بد من مواقف واضحة من هذا التمرّد، تحمل كل معاني الحزم، لكن شخصية الأَبوين المتراخية تجعلهما ينصاعان لتحديات ابنهما، بحجة أنهما يحبانه فلا يرفضان له طلباً، ويقولان: عندما يكبر سيعي مساوئ مطالبه هذه، ويتراجع عنها وينبذها!
ولكن المتابعات والحقائق العلمية تؤكد أنه حين يكبر سيكون قد تمثّل كل مواصفات هذا الدور، فتراه اتكالياً أَنانياً ينام على ركبتي والديه متوسلاً أن يفكرا عنه كما عوداه لِيرُدّا عنه كل ما يقلقه، أَو ليذللا له كل العوائق، وهذا نظير للقهر، بل هو القهر بعينه، لأَنه إنسان تربى على أَلاّ يشغل تفكيره حتى بما يهمه، ويستوي في ذلك مع المقهور الذي تحرمه هلوسة والديه أو أَحدهما سلوك أي طريق خوفاً عليه من الوقوع في الخطأ، في حين أنه لم يقع في الخطأ فكيف سيتعلم رسم طريق حياته؟، وكيف سيرسم أهدافه؟
ومن يتحمل نتائج كل هذا؟ إن الأُم هي أَول من سيتحمل، وتصبح أكثر نساء الحي عصبية، فهي أَول نجم يدور في فلك إمبراطورية ولدها الذي يزدري كل من حوله ويحتقرهم، لأنه أَناني لا يحب إِلا نفسه، وتصرفاته في الصغر تضطر أُمّه لملازمة المنزل لأَنه يحرجها أمام الآخرين.
لا بد من توازن يمنع التمادي الذي يتم تحت شعار (المحبة)، ويحدُّ من السلطة الأبوية التي تكون تحت شعار (مصلحة الولد). وكلا النقيضين خطأ هدام، ومحصلتهما شخصية اتكالية، أنانية، غير سوية ولا متكاملة البناء، يحول بينها وبين التوازن أَنماط من السلوك ترسخت بتأثير اعتماد أحد النقيضين المرفوضين.
لذا، فنحن نطالب بمحبة متوازنة من غير تطرف وبحزم يمكِّن الأبوين من ممارسة سلطة قيادية غير متسلطة، سلطة ضابطة وموجهة، ففرق كبير بين السلطة والتسلط. ونؤكد أن الحزم من الشروط الضرورية في التربية، ونقصد به الجدية في المواقف، والثبات على الرأي والتصميم، وهي الأُسس المهمة لبناء إنسان معافى نفسياً وصحياً واجتماعياً، متكامل الشخصية يعي خطوط حدوده فلايتعداها، ويثق بقدراته، ويستمتع بمواقفه.
لماذا نطالب أَن يتحقق الحزم في الأُمور التربوية؟
بعض الآباء لا يملكون القدرة على التصميم، وهم غير جديّين، وبالتالي غير حازمين في آرائِهم، وبسبب ذلك لا يحملُ أولادهم آراءَهم محمل الجِدّية، فأمثال هؤلاء يكونون آباء ضعيفي الإرادة، وغير مناسبين للإِدارة لأَن كلامهم غير مسموع وغير مؤثر.
إذاً، فبالقدر الذي تكون فيه المحبة أمراً حيوياً وضرورياً يجب أَن يخيم على أَجواء الأُسرة، كذلك فإِن الحزم والجدِّية وحسن الإدارة أُمورٌ ضرورية، ذلك أَن الأُسرة مؤَسسة صغيرة، وكل مؤسسة تحتاج إلى إدارة، فإِذا ضعفت إِدارتها اضطربت تربية الأَبناء، وحيث إن الأَب هو من يقوم بدور المدير المسؤول عن الأُسرة، فيجب أَن يمتلك خصائص الحزم، في التعامل التربوي مع الأَولاد.
ونعني بالأَب الوالد أو الوالدة اللذين يجب أن يؤديا دورهما بفاعلية، وإذا لم يتحلّ الأَب بصفة الحزم، فإن أَولاده لا يعتبرونه شخصاً جدياً يعني ما يقول وينفذه، فيستهترون بآرائِه، وينشؤون متمردين، ويجابهون موقف الأَب أو الأُم بالرفض والإصرار على تنفيذ آرائِهم، وهذا يصيب عملية التربية بشرخ عميق ليس من السهل ترميمه.
وينشأ الأَولاد حمقى ومستبدين بآرائهم بسبب ضعف الإِدارة وغياب الحزم في أَجواء الأُسرة، حيث يستشعرون منذ طفولتهم نقطة الضعف هذه في والديهم، وتفقد الأُسرة محوراً ثابتاً وصلباً يمكن أَن تستند إليه، وتهتز سلطة الأَبوين، ويستهان بهما، وتختفيفي الأُسرة كل مواصفات ومعاني الهيمنة الإِدارية، فتدُّب الفوضى وعدم الانصياع لآراء الوالدين وتعليماتهما.
إِن الطفل الصغير هو أَلدُّ خصم للقانون والنظام، وباستطاعته أن يُنكِّد ويُنغِّص عيش والديه، فهو، رغم براءَته، مؤذٍ، أَناني، كثير الطلبات، محتال، ومُخرِّب يأبى أَن يُقمع أَو يُردع بأية طريقة، وإذا حُرم من تنفيذ رغباته يُحاول الثأر لكرامته الجريحة، أَمام هذه المواصفات الطفولية ماذا ستكون النتائج إذا تهيأت له تربية متراخية، أَو ما نسميه(دلالاً)؟!.
نتائج الدلال
1 - إن الطفل المدلل يستغل عطف والديه استغلالاً زائداً عن الحد، ويتعود إخضاعهما لرغباته، ومن هنا تنشأ لديه أفكار مشوهة وخاطئة عن معاملة الناس، فقد تعوَّد أن تجاب جميع طلباته، ودخل في اعتقاده أن جميع العالم وُجِدَ لخدمته وراحته، وهذا يرسخ لديه شعوراً بالتفوق على الآخرين وأَنه خير منهم، وربما ساهمت أُمه أو أَبوه في تعميق هذه القناعات لديه.
2 ـ وحين يَشبُّ ويصبح رجلاً نجده يفشل في حياته الزوجية، فهو الذي تعود أن يعامل أُمه كسيد تُؤمّن له كل متطلباته دون جهد، فتعوَّد أَن يأخذ ولا يعطي، فهو في حالة طلب دائم وفي وضع لا يمكنه منح العاطفة لزوجته وربما لا يستطيع منحها لأَولاده، كما أَنه لن يكون قادراً على تحمل المسؤوليات الاقتصادية لأُسرته، فقد تعود التراخي والاتكالية، وهو غير قادر على الرعاية التربوية لأُسرته وأَولاده لأَن مفاهيمه عن الرعاية مشوهة وخاطئة.
3 ـ إِن الأَولاد المدللين ينشأون أَنانيين، مترددين، ضعاف الشخصية، وغير قادرين على القطع برأي في اتخاذ قرار لأَن هنالك من يفكر عنهم، فآباؤهم لا يتركون لهم فرصة حتى للتفكير خشية أَن يخطئوا، وينسى الأهل أَن الفرد قد يتعلم من أخطائه.
إن علاج الطفل المدلل صعب جداً، خاصة بعد أَن يشب، حيث يزداد علاجه صعوبة، ولا خلاف في أَن الاحتياط والوقاية خير من العلاج.
إن الحزم الجاد في معاملة الأَولاد يعني عدم التراخي، وعدم التردُّد في اتخاذ القرار المناسب لإيقاف جموح الطفل، أو لوضع حدٍّ لاستمراره في سلوك غير سويّ حتى لا يقع في الزَّلل، ولا بد وأَن نستخدم الكوابح والضوابط حيث يلزم ذلك كي لا يندفع الابن في تيار سلبي، والسلبيات عادة جارفة.
إذاً، كلمة «لا» يجب أن تُمثِّل قراراً لا رجوع عنه إذا قلناها، ومن المهم جداً أن لا نتبعها بكلمة «نعم»، فتُلغي القرار قبل أَن يأخذ مجال التنفيذ حيث نقع تحت وطء اعتراض أو إصرار الولد، إن هذا التراجع يوقع الطفل في دائرة التحدي، فلا قرار يقف في طريق رغباته لتحقيق مطالبه وفرض سيطرته، أما الإصرار على تنفيذ القرار فيضع ضوابط لانفلاته من قيود النظام والعرف وغير ذلك.. ويفهم أَن له حدوداً لا يمكن أن يتجاوزها ، وأن عليه أَن ينصاع لهيمنة الأُسرة، ولكن يجب إِفهامه الغرض من هذا التصرف، وأن مصلحته فيه.
الولد والبنت يمتصان من أَبويهما سلوكهما وطرق تعاملهما، حتى تعابيرهما في معظم الأحيان، فماذا سيتعلم الطفل من والدٍ مُتردِّد متراخٍ، ليس له قرار ولا سلطة أبوية في أُسرته؟. بل كيف يمكن أن يتكيف مع المجتمع ولدٌ تعلَّم الاستهتار بآراء والديه؟ وكيف سيستطيع قيادة أولاده وأَفراد أُسرته، أو زملائه في العمل في المستقبل؟!.

عبد العزيز الخضراء
كاتب وتربوي