الحديث النبوي: من أين نبدأ؟!

د. عصر محمد النصر

لست أفشي سرا إن قلت: إن موضوعا كهذا الموضوع الشريف، قد قُتل بحثا. ولم يكن لي رغبة في تسطير حروفه، وإنما الاتجاه إلى معالجة نزعة التدين في المجتمع المسلم، وتهذيب سيره إلى الله تعالى. ولكن هي أبواب من جهاد الكلمة، يبتلي الله سبحانه بها عباده؛ حيث وجدت أسباب الاختلاف والمخالفة، ومن ذلك: التشكيك في ثبوت الحديث النبوي، سواء من جهة فقدان أصوله ونسخه، أو دخول ما ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وغفلة العلماء عن ذلك، ومن ثمّ استحداث قواعد نقدية جديدة لمعالجة هذا التسرب! وكل ذلك يجري على أيدي غير المتخصصين في علم الحديث. وهذا بدوره يلقي بظلاله على الإيمان بالسنة النبوية والعمل بها. وقد رأينا آثار ذلك على فئات من المسلمين، لاسيما الشباب منهم. مما يستدعي الوقوف على جوانب هذه المسألة، لأجل نظم مسارب الفكر وانتظام العمل. لذلك، اخترت جانبا مهما يعد أساس العملية الحديثية وقوامها. اضافة اعلان
وقبل الولوج في مضامين الموضوع، لا بد من التذكير بحقيقة مهمة، وهي أن "هذه العلوم النقلية كلها مختصة بالملة الإسلامية وأهلها. ثم إن هذه العلوم الشرعية النقلية قد نفقت أسواقها في هذه الملة ما لا مزيد عليه، وانتهت فيها مدارك الناظرين إلى الغاية التي لا شيء فوقها، وهذبت الاصطلاحات ورتبت الفنون، فجاءت من وراء الغاية في الحسن والتنقيح" (مقدمة ابن خلدون، ص 475). وقد جرى عمل علماء الأمة جيلا بعد جيل على وفق ما تقرر في علم الحديث، اعتبارا منهم لاختصاص أهل الحديث فيه. فالتسليم لأصحاب الاختصاص فيما اختصوا به، مسلمة عقلية لا تنظم أحوال الناس إلا بالعمل بها "فإذا اجتمع أهل الفقه على القول بحكم لم يكن إلا حقا، وإذا اجتمع أهل الحديث على تصحيح حديث لم يكن إلا صدقا، ولكل من الطائفتين من الاستدلال على مطلوبهم بالجلي والخفي ما يعرف به من هو بهذا الأمر حفي" (مجموع الفتاوى، 1 /11).
وعودا على بدء، فإن للناس في هذا الباب مسالك قديمة، قد تصل في بعض الأحيان إلى إفقاد السنة النبوية روحها، وتجريدها من قيمتها الشرعية، بحيث تجري عليها مقاييس هي عين مقاييس كلام البشر من غير مراعاة لخصائص السُنّة النبوية، مما يستدعي الوقوف على طريقة أصحاب الاختصاص أهل الحديث.
ينطلق أهل الحديث في معالجة السُنّة النبوية من أساس عظيم متين، وهو حفظ الله تعالى لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر، الآية 9). والسُنّة من الذكر؛ فهي تفسر القرآن وتبيّنه، وتدل عليه وتعبر عنه: "... وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" (النحل، الآية 44). وفي الحديث: "أَلا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ" (صحيح).
فالإيمان بحفظ الله تعالى لسُنّة نبيه صلى الله عليه وسلم، هو إيمان بصلاح الإسلام نفسه كدين حاكم، وإيمان برسالته الخاتمة المهيمنة، وإيمان ببقائه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وعلى ذلك بنيت معارف أهل الإسلام وعلومهم؛ يقول أبو الحسن الأشعري، رحمه الله: "ولما كلفهم الله عز وجل ذلك، وجعل أخبار نبيه صلى الله عليه وسلم طريقا إلى المعارف بما كلفهم إلى آخر الزمان، حفظ أخباره صلى الله عليه وسلم في سائر الأزمنة، ومنع من تطرق الشبه عليها حتى لا يروم أحد تغير شيء منها، أو تبديل معنى كلمة قالها إلا كشف الله عز وجل سره، وأظهر في الأمة أمره، حتى يرى ذلك عليه العربي والعجمي، ومن قد أُهل لحفظ ذلك من حملة علمه -عليه السلام- والمبلغين عنه ووقوع التبليغ لما أتى به نبينا -عليه السلام- إلى من يأتي في آخر الزمان؛ لانقطاع الرسل بعده؛ واستحالة خلوهم من حجة الله عليهم" (رسالة إلى أهل الثغر، ص 195). وهذا الحفظ ليس لجملة الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل لكل فرد من أفراد الوارد، مما يحتاجه الناس في دينهم؛ فلا يشتبه حق بباطل، ولا يفوت الأمة عمل بسُنة، ولا تجتمع على الخطأ. يقول ابن القيم، رحمه الله: "ذلك أنهم يعتقدون أنه لا يجوز أن يكون الخبر الذي يتعبد الله به الأمة، وتعرف به إليهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، في إثبات أسمائه وصفاته، كذبا وباطلا في نفسه، فإنه من حجج الله على عباده، وحجج الله لا تكون إلا حقا في نفس الأمر" (مختصر الصواعق، 4 /146). وقال: "ولا يجوز أن يكون الكذب على الله وعلى دينه وشرعه مشتبها بالوحي الذي أنزله على رسوله وتعبد به خلقه بحيث لا يتميز هذا وهذا" (ص 4 /1463).
ومن موارد الحفظ التي هيأها الله تعالى لسُنّة نبيه صلى الله عليه وسلم، وجود علماء أمناء يحملون الحديث، ويبينون صحيحه من سقيمه. ومن هنا كان علم الحديث من أوائل علوم الأمة الإسلامية نضوجا. وهذا يعود لطبيعة علم الحديث الذي وُجد تلبية لحاجة وهي تميز الأحاديث وصونها، الذي هو ركيزة العمل بها والبناء عليها. يقول المعلمي، رحمه الله: "من طالع تراجم أئمة الحديث من التابعين فمن بعدهم، وتدبر ما آتاهم الله تعالى من قوة الحفظ والفهم والرغبة الأكيدة في الجد والتشمير لحفظ السُنّة وضبطها، بان له ما يحير عقله، وعلم أن ذلك ثمرة تكفل الله بحفظه دينه، وشأنهم في ذلك عظيم جدا فهو عبادة من أعظم العبادات وأشرفها" (الأنوار الكاشفة، ص 33).
إذن، هذا هو الأصل العظيم الذي انطلق منه علماء الحديث في معالجة الحديث النبوي؛ فهو كلام متميز عن سائر كلام الناس، وله من المقاييس التي يختص بها ما ليس لغيره، مراعاة لجناب الوحي وعلو شأنه. وكل طريق غير هذه الطريق، وكل مسلك يتجاوز هذا المسلك، له نتائجه السلبية كما نراه بين حين وآخر من تشكيك بثبوت السُنّة وفقدان أصولها وترك العمل بها.