"الحديث عن الأشجار".. رحلة شغف لإعادة النور لشاشات السينما في السودان

مشهد من الفيلم- (الغد)
مشهد من الفيلم- (الغد)
إسراء الردايدة عمان – عن سحر السينما وحب الفن اللذين دفعا مجموعة من الأصدقاء جمعهم الشغف في إعادة احياء التراث السينمائي السوداني، يأتي الفيلم السوداني الوثائقي "الحديث عن الأشجار" لمخرجه صهيب قاسم الباري، الذي يقدم التحديات التي وقفت عائقا أمام تحقيق حلم طال أمده. "الحديث عن الأشجار" الذي اقتنص التانيت الذهبي أول من أمس في ختام أيام قرطاج السينمائية عن أفضل فيلم وثائقي، وهو الفيلم الطويل الأول للمخرج السوداني الباري، الذي أشرك فيه أربعة من المتقاعدين الذين أرادوا إعادة فتح دار سينمائية في مدينة اودرامان التي تقع خارج الخرطوم على بعد مسافة قريبة، بعد أن اغلقها نظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير. تاريخ السينما السودانية اضافة اعلان

تم تصوير أول فيلم  في السودان  عام ١٩١٠، وتمثل في تصوير رحلة صيد قام بها مخرج الفيلم، الذي تم عرضه في فبراير 1912 بمدينة الأبيض، التي كانت أول مدينة سودانية تشهد عرضاً سينمائياً.

وفي عام ١٩٢٤، تم إنشاء أول دار للعرض السينمائي بمدينة الخرطوم، استمرت حتى نهاية عصر السينما الصامتة، ليتم بعد ذلك إنشاء دار للعرض خاصة بالأفلام الناطقة بالسودان في عام 1930.

وشهد عام 1949، إصدار قانون لصناعة السينما تزامناً مع بناء أول وحدة لإنتاج الأفلام بالسودان، تحت اسم "مكتب الاتصالات العام للتصوير السينمائي"، وكان خاضعاً  للاستعمار البريطاني، الذي خصصه لإنتاج الأفلام الدعائية إلى جانب مجلة نصف شهرية الغرض منها استعراض بإنجازات الاستعمار.

ومع استقلال السودان عام ١٩٥٦، أنتج أول فيلم تسجيلي في السينما السودانية، من إخراج كمال محمد إبراهيم، بعنوان "الطفولة المشردة"، وإلى جانب دور السينما، عرف السودان نوع آخر من دور العرض، ويتعلق الأمر بالعربات السينمائية المتجولة، التي بدأت نشاطها ما قبل الاستقلال، فكانت تتجول في مختلف أحياء السودان، وتعرض أفلاماً تصويرية وإخبارية عن الاحتلال البريطاني، ونشاطاته في المستعمرات الخاضعة له، ووصل عددها إلى 16 عربة خلال فترة الستينات، لكن محتوى العرض تغير بعد تخلصت من الاستعمار، وأصبحت تعرض أفلاماً عن التوعية الصحية

في عام 1970، شهدت  السودان  إنتاج أول فيلم روائي طويل تحت عنوان"أحلام وآمال"، من إخراج حسين ملاسي، ليليه بعد عامين إنشاء قسم للسينما  بوزارة الثقافة والإعلام، وصدر بعد 4 سنوات  صدر بما  يعرف بـ "الرقابة السودانية"، التي منعت فيلم "الشروق" لمخرجه أنور هاشم من العرض.

ومع قدوم ثورة الإنقاذ الوطني في 1989 دق أخر مسمار في نعش السينما السودانية ، وأصبحت دور العرض المتبقية تبث فقط الأفلام الهندية، مع إجبارها على بقاء الأضواء مشتعلة في القاعات أثناء العرض.

وحتى العام الحالي 2018 لم يتجاوز عدد الأفلام السودانية في الفترة بين ١٩٧٠ حتى ٢٠٠٩ إلا  ٧ أفلام روائية طويلة فقط، أهمها فيلم "تاجوج" الصادر في العام 1980 وفيلم "بركة الشيخ" في العام 1998 من إخراج جاد الله جبارة، ووصل عدد دور العرض بالسودان إلى ٧ دور، مقابل أكثر من ٤٠ مليون نسمة.  وفي العام 2018 عادت السينما السودانية بعد 25 عاما تقريبا من الاختفاء لتظهر من جديد من خلال أسبوع النقاد بمهرجان فينيسيا السينمائي، عبر فيلم "أكاشا" للمخرج السوداني حجوج كوكا. وفي العام 2019 قدم المخرج السوداني امجد ابو العلا " ستموت في العشرين" ليكون الفيلم التاسع  والذي حقق جوائز عالمية منها فوزه بمهرجان فينيسيا بجائزة اسد المستقبل والجونة السينمائي واخرها ايضا في" ايام قرطاج السينمائية " وجوائز اخرى مستمرة في جولته  في دور العرض الكبير عالميا .

الحلم

رحلة "الحديث عن الأشجار" استوحى اسمه من مقولة للشاعر برتلوت بريخت من قصيدته (أولئك الذين ولدوا لاحقا) في 1940 ويقول فيها، "أي زمنٍ هذا ؟ـ الحديث عن الأشجار يوشك أن يكون جريمة، لأنه يعني الصمت على جرائم أشد هولاً". وفيه يجتمع أربعة أصدقاء مخرجين هم إبراهيم شداد، ومنار الحلو، وسليمان محمد إبراهيم، والطيب مهدي، درسوا جميعا السينما والاخراج خارج السودان، وأفلامهم السياسية بمحتواها منعت، وفقدت، وجميعها تعكس تأثير الموجة الفرنسية الجديدة والاتحاد السوفياتي، من أجل تحقيق حلمهم. في رحلة إعادة تأهيل دار السينما الذي يحاول الفرسان الأربعة إعادة النور والألق لشاشات أطفئت عتمتها، وحرم الجمهور من متعتها يواجهون تحديات اجتماعية بقوالب نمطية، في العاصمة التاريخية للسودان، والتي تعيش بها طبقة حاكمة متشددة خاصة ضد الفن، ودمروا فيها كل دور السينما كونها "فنا مبتذلا" من وجهة نظرهم. ولكن هؤلاء الفرسان لم يتوقفوا عن صنع شغفهم من خلال تصوير وثائقيات قصيرة، وأسسوا نادي الفيلم السوداني، بعملهم في: إعادة مد الكهرباء، الطلاء، اختيار الفيلم، تنظيف المسرح، تجارب التشغيل، لفت الجمهور ودعوته، ولطقات جميلة.. هي رحلة شخصية لرجال غير عاديين ومثابرتهم في مرار لإعادة السينما الى الحياة بعد عقود طويلة. رحلة صناعة الفيلم هي بذات الوقت تأريخ لفترى تاريخية ومرحلة مهمة في السينما السودانية من بعد القورة، فهي تشهد على حدود الحرية المقيدة، وكيف توقف حياة هؤلاء الرجال الأربعة المهنية نتيحة الانقلابات العسكرية، في حين أنهم يملكون مواهب هائلة غير مستغلة على غرار كثير من الذين تركوا السودان. الفيلم الذي نال جائزة النجمة الذهبية في مسابقة الأفلام التسجيلية بمهرجان الجونة السينمائي، وجائزة أفضل فيلم تسجيلي في مسابقة البانورما في مهرجان برلين السينمائي 69 يلتقط التغيير الذي تنشده البلاد والجيل الجديد، مشبع بسخاء روحي لكبار السينمائيين السودانيين ومعركتهم في تحقيق نجاح كبير، في رحلة استحقاق وتقدير لهم أيضا. المخرج صهيب قاسم الباري رافق الأربعة بقصة حقيقية وهم يحاولون بتفاؤل تأهيل مسرح الثورة في مكان نسي به السكان معنى السينما في المقام الاول، وخياراتهم في عرض فيلم ناطق باللغة الانجليزية أو الهندية، وفكرة نقل الجمهور الذي تعود مشاهدة الصور في منزله لمكان آخر، حيث إن السينما تتيح لك أن تضحك مع أصدقائك وتشاركهم المتعة، ويجرون استبيانا ويخضعون لتجمع الحي، وقرارات جدية من الهيئة المحلية في المنطقة، وتوثيق لأحاديثهم، ولقاءاتهم في غرفة مضاءة على الشموع، وتجهيزات بسيطة ومعدات فردية، ورحلة الاجراءات البيروقراطية المعقدة للتعامل مع انقطاعات الكهرباء، ورحلة بين ذكريات الماضي والحاضر التي تعكس روح الجماعة التي لا تنكسر. "الحديث عن الأشجار"، رحلة لمحبي السينما وخاصة السودانية، تعكس جزءا كبيرا من شغف لن ينطفئ نوره، حيث العديد من السينمائيين الشباب الطامحين سيكملون المسيرة بنفس الوتيرة التي تسيطر على الفيلم، بطريق صعب لا يخلو من المرح والحب العميق والمعرفة، التي تحقق بالنهاية نتائج مذهلة. بهذا العمل أبدع المخرج صهيب بجعل الكاميرا نافذة تستنطق المحيط، حيث ولد فيلمه بعد أن تعرف على المخرجين الاربعة في قرية بعيدة، ليثبت أن الفن السينمائي لا يموت.