الحرب التجارية الجديدة: الأيديولوجيا في خدمة المصالح

أحمد محمد عوض*

عمان- لطالما شكلت التجارة بين الدول محركا أساسيا لطبيعة وملامح العلاقات فيما بينها منذ قرون طويلة، وشكلت المصالح التجارية (كتعبير عن المصالح الاقتصادية) أحد أهم محركات التاريخ، وبالتالي العلاقات الدولية، وحددت هذه المصالح ملامح هذه العلاقات سواء ذات الطابع السلمي أو الحروب.اضافة اعلان
ويبدو أن نظرية حرية التجارة أصبحت على المحك الآن وقيد المراجعة، وهي التي استقرت عليها القوى الاقتصادية الكبرى في العالم منذ عقود عدة، وقادتها وحرصت على تطبيقها أهم المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية مثل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والعديد من المؤسسات المالية الدولية.
ليست المرة الأولى التي تقوم فيها قوى اقتصادية كبرى بوزن الولايات المتحدة الأميركية بالتنصل من التزاماتها نحو شركائها وحلفائها الاقتصاديين والتجاريين بذريعة الدفاع عن مصالحها الاقتصادية، فقد جرت محاولة في العام 2002 وفي عهد جورج بوش الابن، لفرض رسوم جمركية على واردات الصلب، بذريعة الدفاع عن مصالح بعض قطاعاتها الاقتصادية، إلا أن هذه المحاولة لم تستمر سوى أشهر قليلة، والتي يبدو أنها كانت خاضعة لحسابات سياسية انتخابية في بعض الولايات التي تضمن فوز مرشحي أعضاء الكونجرس عن هذه الولايات.
ولطالما تعرضت نظريات التجارة الحرة وما يرتبط بها من معايير مثل إلغاء الرسوم الجمركية (مع بعض الاستثناءات) وحماية الملكية الفكرية وتجارة الخدمات وتنظيم المشتريات الحكومية، خلال العقود الماضية لانتقادات كبيرة، باعتبارها غير عادلة، وأنها كرست التفوق الاقتصادي الغربي على اقتصادات الدول (النامية)، وإضعاف أي فرص لنمو قطاعاتها الإنتاجية بسبب ضعف قدراتها التنافسية في السوق العالمي؛ حيث تعالت مطالب الكثير من مفكري التنمية وقادة بعض هذه الدول لضرورة توفير بعض سبل الحماية لبعض القطاعات الإنتاجية لحماية مصالحها الاقتصادية ومصالح مواطنيها العاملين في هذه القطاعات.
وكان وما يزال هذا المسار ممكنا بحدوده الدنيا في إطار ما أطلق عليه (الاستثناءات) التي يسمح للعديد من الدول الفقيرة لإعادة ترتيب أوضاعها الاقتصادية وتعزيز قدراتها الإنتاجية، وخاصة في قطاعي الصناعة والزراعة، ولكن وعلى أرض الواقع قليلة هي الدول التي استفادت من هذه الاستثناءات؛ حيث تراجعت قدراتها الإنتاجية أمام المنافسة غير العادلة للسلع المنتجة في الدول المتقدمة عليها، ما أدى إلى إضعاف قدراتها التصديرية أمام إغراق أسواقها بالسلع المستوردة، الأمر الذي انعكس على تفاقم عجوزات موازين المدفوعات لديها، وبالتالي تزايد الحاجة الى الحصول على قروض خارجية لسد هذه العجوزات، وأصبح يتم التعامل مع نظرية حرية التجارة وما يرتبط بها من شروط باعتبارها واقعا لا يمكن تجاوزه، وباعتبارها (أيديولوجيا الاقتصاد المعاصر)، خاصة بعد أن أصبحت جزءا من شروط صندوق النقد الدولي لتطبيق أي برامج إعادة هيكلة لاقتصادات الدول التي ليس لديها قدرات على سداد ديونها.
كذلك تعرضت نظرية التجارة الحرة للعديد من الانتقادات في جوانب تتعلق بحماية الملكيات الفكرية، التي كرست في جانب منها احتكارات الأدوية، ورفع أسعارها بشكل أثر سلبا على قدرة الناس والحكومات على تحمل تكاليف الاستشفاء. هذا الى جانب الشروط الأخرى ذات العلاقة بمنع تقديم الدعم للقطاعات الاقتصادية الإنتاجية (الصناعة والزراعة)، والتي كبلت القدرات الإنتاجية للدول النامية وأضعفت اقتصاداتها، وفرضت سياسات اقتصادية تقشفية على الخدمات العامة المقدمة لمواطنيها، ودفعت حكوماتها للانسحاب من الحياة الاقتصادية، وإضعاف القطاعات العامة (الحكومية)، ما أثر سلبا وبشكل كبير على درجات تمتع مئات ملايين البشر من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية.
المختلف الآن أن المطالبة بإلغاء قواعد ومعايير حرية التجارة الحرة تأتي من أحد أهم مراكز الاقتصاد العالمي، من الولايات المتحدة وليس من دول العالم النامي، دفاعا عن مصالح بعض قطاعاتها الاقتصادية، ولمواجهة العجوزات المتتالية في ميزانها التجاري، لصالح القوى الاقتصادية الكبرى الأخرى مثل الصين وأوروبا وكندا وغيرها.
ويبدو أن الحرب التجارية التي بدأت أخيرا بين المراكز الاقتصادية العالمية ستعيد ملف حرية التجارة وما يرتبط بها من معايير (شروط) الى الواجهة مرة أخرى، وهي فرصة للوقوف على النتائج التي نتجت عن تطبيقها خلال العقود الماضية، وكرست هيمنة الاقتصادات الكبرى والشركات العابرة للقارات على الدول الصغيرة والنامية. إضافة الى أنه يثير التساؤلات حول مدى استمرارية العمل وفق أسس النظام التجاري العالمي كمكون أساسي من النظام الاقتصادي العالمي، ومدى فاعليته في تحقيق التنمية المستدامة والحد من التفاوت الاجتماعي، ليس فقط داخل الدولة الواحدة، وإنما بين الدول نفسها، إلى جانب قدرته على محاربة الفقر والأمن الغذائي وخلق فرص العمل بشكل كاف ولائق وعادل في مختلف أنحاء العالم.

*مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية