الحسين فعبدالله الثاني

لا يمكن أن تمحى من الذاكرة تلك اللحظات. خرجت الملكة نور لتقول "خلاص. مات الحسين". كانت الساعة تقارب الحادية عشرة صباحا في مدينة الحسين الطبية. وبعد نصف ساعة رافقتها إلى تجمع الصحفيين حتى أخبرتهم أن حبيبهم، ومليكهم، ورجل المواقف، والهمة والبناء، والسماحة، والعقل، والقلوب قد انتقل إلى الرفيق الأعلى. وقد بذلت جلالتها آنذاك جهدا كبيرا لتحافظ على هدوئها. وصارت تعزي الناس به لأنها تعلم أن مصابها مصابهم. تلك لحظات لا تُنسى. كيف يستبق الناس الحدث، ويعلمون أنه واقع لا محالة، وأن القضية ليست عما إذا كان المصاب سيقع، ولكن متى؟ ولكنه عندما يحصل، وتنطفئ آخر ومضة أمل بأن ما يخشون حصوله ربما لا يحصل، تجدهم يخرون من شدة الألم وكأنه جاء في غفلة عنهم. ولقد شاهدت الشريط الذي سجله صاحب الجلالة الملك عبدالله الثاني مخاطبا الشعب الأردني بمناسبة مرور عشرين سنة على وفاة الحسين العظيم. وبدا واضحا أن جلالته حزين كأن الأمر حدث يوم أمس، وكأن العشرين سنة قد اختزلت كلها في لحظة مدوية. لقد خرجت الكلمات والعبارات من قلبه، ومن صميم حناياه حارة ليذكر الشعب الأردني أن والده صاحب شعار "الإنسان أغلى ما نملك" ما يزال حيا ونابضا، ويشكل نبراسا نحمله على طول الدرب. ولا أريد أن اخرج عن الحالة الشاعرية التي أعيشها، ولكن الإنسان أغلى ما نملك ليس شعارا، وإنما نهج، واقتصاد، وكرامة، وطريقة عيش، ومحور العقد الاجتماعي، وضمان الرفاه القائم على الإنتاج والعمل، والذود عن الوطن، والتصدي لتحدياته والبناء عليها. ولعل من أهم الاقتباسات التي تتداولها منصات الإعلام الدولية من إرث الراحل العظيم فقرة وجدتُ فيها عمقا وإنسانية تخترقان الحشايا والذاكرة. "علينا أن نواجه الواقع، ونعترف بأخطائنا بأسلوب أمين وراشد. والتفاخر بالمجد لا يحقق المجد، والغناء في العتمة لا يطرد الخوف". وقد ترجمت هذه الجملة عن مصدر باللغة الإنجليزية. ولكنها قراءة حصيفة في سياسة الحياة. والنقد الذاتي، والعودة إلى جادة الصواب، والتعامل مع الواقع بحكمة لا بالأوهام، هو ما نحن أحوج إليه الآن من وقت مضى. وأتذكر جلساتي مع الحسين العظيم، لما كان يتلقى العلاج في "مايو كلينيك" بولاية مينيسوتا الاميركية. في تلك اللحظات تتجلى الطبيعة الحقيقية للإنسان، وتكتشف معدنه الأصيل وهو يصارع المرض الخطير. قال لي متسائلا ذات مرة "وكيف الأهل والعشيرة في عمّان والأردن؟ إن شاء الله الأمور بخير؟" فقلت له يا سيدي الأمور بخير طالما أنتم بخير. وسأل وما هي أخبار القدس والأقصى؟ قلت له يا سيدي أنت الوصي عن آل هاشم في المسجد والصخرة والساحات. وحراس الأقصى الذين زرتهم هنالك يدعون لكم بالشفاء العاجل". وسألني ما أخبار حراس الأقصى أولئك الرجال؟ قلت له يا سيدي يدعون لكم. وهم على ما عهدتهم واضحو الرؤية. يقولون لي انتم السياسيون افعلوا ما تريدون، فهذا عملكم. أما نحن فليس أمامنا إلا أن نرقى إلى الشرف الذي منحناه بحراسة هذه البقعة المباركة، وطالما أن هؤلاء (يقصدون الإسرائيليين) يريدون أخذه منا، فهم أعداؤنا"، لا نفهم إلا هذه الحقائق. فقال جلالته رحمه الله إنهم صادقون. إن التاريخ سيسجل أن القدس احتلت ايامي". وابتسم ابتسامة لن أنساها طول عمري فقد كانت تعبّر عما يجيش في نفسه. أريد أن أحيا إلى زمن تنقذ فيه القدس الشريف من الاحتلال. ولما أسمع في كلمة الملك عبدالله الثاني الرثائية نفس الحديث عن السلام، واستعادة الارض، والقدس، ونيل الفلسطينيين حقهم المشروع، وقولهُ بأن لا سلام في الشرق الأوسط بدون حل عادل لتلك القضية العادلة، أطمئن أننا على الدرب سائرون. لقد احتفل الأردن يوم 30 /1 بعيد ميلاد جلالة الملك عبدالله السابع والخمسين، ويوم – السابع من شباط (فبراير) مازج الحزن بوفاة ملك وتولي ملك جديد سلطاته الدستورية. فتخالجنا الحيرة. هل نحزن لموت ملك عرفناه ملكا عادلا سمحا كريما لمدة سبعة وأربعين عاما؟ أم نفرح بملك شاب جديد يسعى لأن يبقى الأردن بلدا صامدا متطورا إنسانيا يقوم على الإنسان ويعمل للإنسان، رغم الصعاب والشدائد؟ أقول هكذا نحن البشر، تعلمنا الحياة أن مع العسر يسرا، وأن مع الظلمة فجرا، وان الله يخلق الحي من الميت، ويخلق الميت من الحي، ويولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل. نحن قوم نؤمن بالله، وبِسُننه، وبأن الله علام الغيوب. ولكن طالما أننا متفيئون بعرش آل هاشم، فنحن بإذن الله سنبقى واحة أمان، وقلعة عربية صامدة، ومصدر إشعاع فكري إنساني. ورحم الله الحسين وأطال عُمر عبدالله الثانياضافة اعلان