الحفيدة

د. لانا مامكغ

يقوم من فراشه بنشاط، يهرع إلى الاغتسال، وحلاقة ذقنه، وهو يردّدُ لحناً مرحاً، ثمَّ يتناولُ إفطارَه، ويتأنّق، ويتعطّر، ويخرج لملاقاتها … وبمجرّد وصوله إلى باب البيت تركضُ نحوه لاحتضانه، فيحملها إلى سيّارته ليوصلها إلى الرّوضة، حيثُ ينزلُ ليمسكَ يدها بحنو ويُسلّمها إلى المعلّمة، ثمّ يمضي متلّفتاً وراءه بلهفة فيراها تقفُ عند البوّابة لتلوّحَ له بيدها الصّغيرة مع ابتسامةٍ تذيبُ قلبَه تماماً!

اضافة اعلان

هي فرحته التي تكبرُ أمام عينيه يوماً بعد يوم، هي الحبُّ الذي لم يعرف مثله طوال حياته، معها لا يعرفُ التّعب أبداً، إذ يتصيّدُ الفرصَ في الأمسيات أيضاً لأخذها إلى الحديقة، أو إلى مراكز الألعاب، ويتمشّى معها أحياناً، فيتبادلان الحديث ليستمع بشغف إلى كلماتها القليلة التي تصبُّ في قلبه كموسيقا عذبة، يخفي ضحكته على نطقها لبعض الحروف، ويعيدُ اكتشافَ الحياة والطّبيعة والأشياء بعينيها، يلاطفها الآخرون، فيشعرُ بالزّهو، كيف لا؟ ودنياه تسيرُ معه كائناً من نورٍ وبراءةٍ وبهجة... تتعبُ فيحملها إلى أن يغالبها النّعاس، ليعيدها إلى البيت، ويدخل كي يحكمَ غطاءها بيديه، ليخرجَ على رؤوس أصابعه، ويمضي وهو يتلهّفُ ليومٍ جديدٍ معها وبها ولها!

يتأمّلُ صورَها كلَّ ليلة قبل النّوم، فيضحك من قلبه، وينام وهو يشكر الله على هديّته الغالية الأثيرة، ليتساءل عن طعم حياته التي مرّت... وإن كان قد عاشَ أصلاً قبل أن يراها!

ذات صباح، وفيما كان يقفُ عند البابِ بكامل أناقته بانتظار إطلالتها، خرج له ابنُه ليخبره أنّّه وحدَه في البيت، ويدعوه للدّخول بصوتٍ جافٍّ متعب… ثمَّ ليعرف هو أنَّ خلافاً كبيراً نشبَ بينه وبين الزّوجة، غادرت على إثره مع الطّفلة إلى بيت أهلها!

مرّت دقائقُ كالدّهر وهو مذهولٌ لا يقوى على الكلام، إلى أن قال للشّابِ إنَّ المشاكلَ أمرٌ طبيعي بين الأزواج، وأنه لا بدَّ من طريقة للحوار والتّفاهم حتى تعود المياه إلى مجاريها…

مرّّ عليه يومٌ أو اثنان كالجحيم، ليصدمَ بخبر اتّفاقهما على الطّلاق، لأنَّ السّبلَ بينهما قد سدّت، حسب تعبير ابنه، وأنَّ الحفيدة ستبقى في حضانة أمّها، التي نوت بدورها مغادرة البلد إلى آخرَ بعيدٍ حيث يقطنُ أهلها…

شعرَ بالكون ينهار أمام عينيه، حاول التّماسك، لكن دون جدوى، لم يفارقه الشّعورُ باليأسِ والضّياع، استعان بالرّفاق بلا فائدة، حاول إلهاء نفسه بأي طريقة، لكنَّ الوجعَ ظلَّ حاضراً بقوّة وسطوةٍ وقسوة…

صار يمشي في الشّوارع على غير هدى، وينسى نفسَه دون طعام لأيّام، أصبحت المرارةُ تلتهمُ ساعات يومه كلّها، لتتحوّل إلى حالة اختناق في الليل… حتى كان يطلعُ عليه الصّباح دون أن يغمضَ له جفن!

ذات ليلة، ألقى بجسده المنهك على السّرير، ثمَّ ارتفع صوتُ نحيبٍ مكتوم داخل الغرفة المعتمة، هكذا، حتى أغمضَ عينيه أخيراً، ومضى في إغفاءةٍ طويلة… طويلة!

المقال السابق للكاتبة

للمزيد من مقالات الكاتبة انقر هنا