الحقائق العشر في ثلاثة أنظمة دكتاتورية

عندما سمعت الاخبار القادمة من ليبيا تفيد بأن مدينة سرت قد سقطت في ايدي الثوار الليبيين، وان نظام الرئيس القذافي قد انهار كما انهار من قبله نظاما الرئيسين التونسي والمصري، تواردت الى ذهني مجموعة من الافكار التي اختزنت في ذاكرتي منذ زمن حول الكيفية التي كانت تلك الانظمة تحكم بها الشعوب في الدول العربية الشقيقة: تونس مصر وليبيا، والتي قادت الى الانهيار السريع لتلك الانظمة في اقل من سنة، وحاولت جادا ربط ذلك المخزون الفكري بمجريات ما يحدث الان في تلك الدول، واستطعت من خلال التحليل النفسي- السياسي Psyeho-political analysis استنتاج الحقائق العشر التالية:اضافة اعلان
1 - ان انظمة الحكم في تلك الدول كانت فعلا دكتاتورية، فقد اتصفت (حسب التعريف الليبرالي للدكتاتورية) بنفس السمات التي وردت في التعريف ان لم تكن قد فاقته مثلا: التفرد المطلق بالسلطة، تبني نظام الحزب الواحد، تعبئة الجماهير بأيدولوجيا النظام الحاكم، احتكار وسائل الاعلام وتحويلها الى بوق للترويج والدعاية لصالح النظام، توجيه النشاط الاقتصادي والاجتماعي لخدمة مصالح النظام، واخيرا الاستخدام التعسفي للقوة من اجل ترويع الجماهير وابتزاز قياداتها.
2 - ان ادعاء تلك الانظمة بأنها تمثل ارادة الشعوب كان زائفا ومزورا، بل انها جسدت طموحات زعماء يبحثون عن السلطة والتفرد بها، وقامت بخطف الدولة ونهب خيراتها وثرواتها وجيرتها لحسابات زعمائها وابنائهم والمنتفعين من حولهم، كما استخدمت جزءا من هذه الثروات لتمويل صفقات اسلحة تضرب بها ابناء الشعب المالك الشرعي لتلك الثروات، وجزءا اخر تبرعت به لهؤلاء الافراد كهبات ومنح قدموها باعتبارها من اموالهم الخاصة. وكان نتيجة ذلك ميراث من الفقر والمديونية والتخلف، فأي شريعة تبيح لهؤلاء فعل هذا كله، وهل كانت مهمة هؤلاء تفقير شعوبهم وتركها تترنح في تخلفها؟ ان الدليل على هذا الزيف هو ان هذه الشعوب عندما قررت التعبير عن ارادتها الحقيقية كان لها رأي آخر، واختارت اسقاط تلك الانظمة.
3 - ان زعماء تلك الانظمة الدكتاتورية قد مارسوا الحكم كهواية شخصية- وليس كمسؤولية وطنية وتحت تأثير حالة واحدة او اكثر من حالات الاعتلال النفسي التي يمكن تشخيصها إما بالتوحد او الانفصام او الهوس اللامحدود بالسلطة او الغرور الخيلائي. فالمتابع لخطب هؤلاء الرؤساء قبل تهاويهم، يرى انهم لم يعيشوا واقعهم ولم يدركوا ما يدور حولهم من احداث. فهل عجزت امة الضاد عن انجاب نمط من القادة غير هؤلاء؟ لقد جاءت نهاية هؤلاء القادة بالشكل الذي رد للامة اعتبارها واكد رفضها لهذه العبثية السياسية اللامعقولة؛ فأولهم فر في جنح الظلام، وفي ليل بلا قمر. والثاني خرج ونأى بنفسه حتى قيد وقد احتضر، اما ثالثهم فقد كابر وضل واستكبر، فوصلت به بوصلة ضلاله الى نفق فأصبح عبرة لمن اعتبر.
4 - ان لكل نظام حكم حساباته الخاصة به، كما ان للشعوب ايضا مطالبها في الحرية والكرامة التي لا يجوز اختزالها او تجاهلها. بل ان معاندة الانظمة لشعوبها الساعية لنيل هذه المطالب سيصل بها الى نفق مظلم. ولهذا، فإن ذكاء اي نظام وابداعه المنهجي في الحكم يكمن في قدرته على ايجاد المعادلات التي تحقق التقاطعات الخلاقة بين حساباته وبين مطالب الشعب. وللاسف، فإن دكتاتورية تلك الانظمة الثلاثة افقدتها بصيرتها وادخلتها الى نفق نهايتها.
5 - ان علاقة تلك الانظمة الدكتاتورية بشعوبها لم تقم على اساس عقد اجتماعي تعطي بموجبه تلك الشعوب الشرعية الحقيقية لتلك الانظمة والقبول بحكمها، فقد وصلت تلك الانظمة الى سدة الحكم اما لتخلف السلف وسد فراغ سياسي في السلطة (النموذجان التونسي والمصري) او عن طريق انقلاب عسكري قام به من اعتقد انه جاء بمفهوم ثوري جديدة محبوك في اطر نظرية مبنية على اساس شطحات فكرية وتجليات حلم اليقظة ويفتقر الى ابسط قواعد المنطق السياسي (النموذج الليبي).
6 - ان تلك الانظمة الدكتاتورية قد جسدت نموذجا فريدا من الحكم الدكتاتوري لم تعهده حقب القرون الغابرة. وقد سمح ذلك النموذج لزعماء تلك الانظمة استباحة محرمات الحرية والديموقراطية وانكار الاخر وتبرير غرائز القمع والاستبداد وكافة التصرفات الموجهة بـ "الأنا السادية".
7 - لقد منحت تلك الانظمة الدكتاتورية نفسها الهوية الوطنية، وبنت مفهومها للسيادة على اساس التفرد بسلطة حكم الشعب، فابتكرت نمطا يدعى "الدكتاتورية الوطنية" لحكم شعوب بريئة وطيبة، وليس على اسس الديموقراطية والعدالة والدولة المدنية. وكان هدف المحافظة على الامن القومي هو شعارها الذي تبرر به كل حملة قمع او تنكيل او مصادرة للحريات. ولأن تلك الانظمة لم تحكم بالعدل فإن زعماءها قد شيدوا لأنفسهم بروجا محصنة لم يشعروا فيها بالامان في لحظة الحاجة اليه فأخلوها وتركوها وراءهم تتهاوى، واوصلهم السبيل الى اماكن لا تحميهم من يد القدر.
8 - لقد استطاعت تلك الانظمة الدكتاتورية ان تقهر شعوبها لعدة عقود خلت، وعطلت حكم القضاء، ووضعت القوانين والتعديلات الدستورية التي تجيز ما لا يجوز، ولكنها لم تستطع ان تكسر ارادة تلك الشعوب المؤمنة بحتمية انتصارها المدركة لقدرتها الفاعلة اللامحدودة، ولأن تلك الارادة معلقة بارادة القدر فقد استعادت ارادتها المسلوبة وجاءها المدد الالهي بالنصر. ولم تسمح البراءة الفطرية للشعوب استخدام هذا النصر للانتقام, بل كأساس لقضاء عادل.
9 - ان الشعوب يمكن ان تتحمل الظلم وتصبر عليه، ولكن هذا الصبر يكون الى حين لانها تملك من قوة الرفض ما يكفي لتمكينها من رفع هذا الظلم، وانها لا تعرف المستحيل عندما تتحرك من اجل تحرير نفسها.
10 - ان تلك الانظمة كانت ضعيفة وواهنة وما كان لديها من القوة نابع من جبروت الزمر الفاسدة التي استقوت بتلك القوى وتسلقت هرم السلطة بحثا عن وسائل تحقيق مصالحها، واقامت سدا من اللاإدراك بين الزعماء والحقيقة، ولكن الشعوب العاشقة للحرية عندما استنجدت بالقدر استجاب لها. ان وهن تلك الانظمة قد افقدها الصواب اللازم لادراك هذه الحقيقة.