الحق في الاختلاف

د. أحمد ياسين القرالة

وردت مادة الاختلاف بصيغها المختلفة في القرآن الكريم في أكثر من خمسين موضوعاً، وقد شمل هذا الاختلاف الظواهر الطبيعية والمجال المادي في هذا الكون، كما شملت المجال الإنساني بكافة أشكاله وتشكلاته، من اختلاف الصور والألوان إلى اختلاف الألسنة واللغات إلى اختلاف العقائد والأفكار، فالوجود مختلف بكل ما فيه، فالاختلاف هو عنوانه وسمته البارزة.اضافة اعلان
وقد اعتبر القرآن الكريم الاختلاف آية من آيات الله عز وجل، وهو دليل عظمة الخالق وبديع صنعه، فقال تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ"، فليس الاختلاف غريباً بل الاتفاق والتطابق هو المستغرب.
فالاختلاف في نظر القرآن الكريم سنة من سنن الله تعالى في هذا الكون، لا بد من إحسان التعامل معها ومسايرتها، ومن رام  معاندتها والخروج عليها، فقد رام محالاً قال تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"، وقال تعالى: "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ" أي ما خلقهم إلا ليختلفوا.
لأجل ذلك أعطى القرآن الكريم للإنسان الحرية الكاملة في اختيار العقيدة التي يريدها والتزام المذهب الذي يرتضيه ضميره ويطمئن له وجدانه، ونهى عن إكراه الإنسان أو الضغط عليه بأي وسيلة كانت لحمله على اعتقاد عقيدة أو التزام مذهب لا يرتضيه، فقال تعالى: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ".  وقال تعالى: "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ"، وبذلك اعترف القرآن الكريم بالحق في الاختلاف والتنوع، كما دعا إلى قبوله واحترامه.
فالاختلاف في نظر الإسلام ضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية، فقد خلق الله تعالى الناس متفاوتين في مواهبهم ومتفاضلين في مداركهم وقدراتهم، فقال تعالى : "وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا" فلم يكن هذا التفاوت والاختلاف عبثاً، بل اقتضته حكمة الخالق تحقيقاً لمصالح الخلق في هذا الوجود وإشباعاً لحاجاتهم.
لذلك دعا الإسلام إلى احترام الاختلاف والاستفادة من طاقاته وإمكاناته وتوظيفها للصالح المشترك، فقال تعالى: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا" أي لتعاونوا.
ولما كان الاختلاف سنة من الله تعالى وضرورة من ضرورات البشر؛ لذلك يرد في القرآن نهي عنه أو دعوة لإبطاله وإلغائه، لسبب بسيط  وهو أنه ليس بقدرة الإنسان وطاقته، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والنهي الذي ورد في القرآن الكريم ليس عن ذات الاختلاف، وإنماعن التفرق فقال تعالى:  "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ" أوالشقاق والنزاع فقال تعالى: "وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ " وليس التفرق هو الاختلاف وليس لازماً من لزومه، ولو كان كذلك لما استقامت حياة الناس، يقول غاندي: الاختلاف في الرأي ينبغي ألا يؤدي إلى العداء وإلا لكنت أنا وزوجتي من ألد الأعداء.
إن الاختلاف عنصر ثراء وقوة لأي أمة إذا ما أحسنت استغلاله وتوظيفه والتعامل معه بطريقة راشدة؛ لأجل ذلك أدرك علماؤنا أهمية الاختلاف فألفوا في مشروعيته وأهميته الكتب الكثيرة، ووضعوا العديد من المؤلفات التي تحدد آدابه وتبين ضوابطه ومحدداته ؛ التي تنأى به عن أن يصبح تفرقاً مذموماً ونزاعاً مهلكاً.