الحكومة تكتشف البترا

عملية إعادة اكتشاف مدينة البترا تمت ثلاث مرات؛ الأولى في العام 1812، على يد الرحالة السويسري يوهان بيركهارت، حينما اكتشفها للعالم الغربي بعد مرور نحو ثمانية عشر قرنا على نهاية مملكة الأنباط على يد الغزاة الرومان. فيما كانت المرة الثانية التي اكتشفت فيها البترا للعالم حينما حصلت على اعتراف عالمي، وعُدّت ضمن عجائب الدنيا الجديدة، في العام 2007. بينما المرة الثالثة التي اكتشفت فيها البترا فكانت على يد الحكومة الأردنية الحالية هذا العام، باكتشاف حجم غياب الدولة الأردنية عن هذا الإرث الإنساني الذي يقع على ترابها؛ تلك المملكة التي امتد ملكها على كامل التراب الأردني المعاصر، ووصلت حدودها إلى دمشق وشمال الحجاز وجنوب فلسطين وصولا إلى سيناء، وأهدت العرب أهم منجز ثقافي في تاريخهم، وهو الحرف والكتابة العربية.اضافة اعلان
الاكتشاف الأردني الرسمي تم هذه المرة على يد رئيس الوزراء د.عبدالله النسور، أثناء زيارته للمدينة في نيسان (أبريل) الماضي، حيث عبر عن صدمته مما شاهده، واصفا أحوال إقليم البترا بأنه مخيب للآمال، وأن المنطقة لم تشهد أي تطور منذ أكثر من عقد. وهذا الاعتراف الرسمي بحجم الإهمال والتهميش الرسميين، يحسب للرئيس وحكومته؛ فآخرون مروا عشرات المرات على الطريق الصحراوي ولم يلتفتوا لا إلى البترا ولا إلى غيرها. لكن، هل أخذت الحكومة زمام المبادرة لمعالجة آثار هذه العقود الطويلة من التهميش؟ إلى هذا الوقت، ما تزال الاستجابة بطيئة ومترددة.
البترا ليست قصة مجتمعات محلية لها مطالبها المحلية؛ نحن نتحدث عن أهم معلم حضاري في الشرق العربي يرتبط بالثقافة العربية، وعن أحد أبرز المضامين التاريخية للهوية الوطنية الأردنية، وأحد رموز الدولة. وإلى جانب ذلك هناك الأهمية الاقتصادية؛ إذ تعد البترا أهم مصدر للدخل السياحي الوطني، وهو مصدر قادر على أن يتضاعف مرات.
قدمت سلطة إقليم البترا تصورا متكاملا لتطوير البنية التحتية في المنطقة، إلى جانب مطالب تشريعية وأخرى إجرائية بهدف تحسين الظروف المحلية لتطوير السياحة وزيادة عوائدها على الاقتصاد الوطني. وبعد مرور ثلاثة أشهر على زيارة الرئيس، تم تنفيذ ثلاثة أو أربعة مطالب فقط من المطالب التي قدمها مجلس مفوضي سلطة إقليم البترا وعددها 26 مطلبا.
هذه هي الحال؛ استجابة ولكنها محدودة وبطيئة، ولا تقترب من المشاريع التي تحتاج إلى تمويل. علما أن البترا غابت عن المشاريع الرأسمالية الوطنية منذ عقود طويلة.
تصور سلطة البترا متواضع، ولا يحتاج إلى أكثر من 30 مليون دينار. ولكن إذا ما توفر هذا التمويل والإدارة الكفؤة، فإنه قد يحدث فروقا مهمة، ليس في التنمية المحلية فقط، بل وفي عائدات السياحة الوطنية، وفي حماية الموقع الأثري، كما تحسين قدرة إدارات الدولة على تطوير نموذج منتج للسياحة التراثية المستدامة.
علينا أن نراقب جيدا التحولات التي تشهدها السياحية العالمية، والاتجاهات التي ستتخذها خلال العقدين المقبلين، ودور المركب التراثي والطبيعي والترفيهي في تحديد مستقبل المقاصد السياحية؛ بمعنى أن القيمة المضافة للبترا اليوم تكمن في خلق صناعة سياحية في الموقع. فنصف السياحة العربية التي تذهب إلى شرم الشيخ أردنية، لكن أكثر من نصف الأردنيين لا يذهبون إلى البحر ولا يقتربون منه، بل الذي يدفعهم للذهاب إلى هناك هو المرافق والفعاليات التي وفرتها صناعة ثرية للسياحة.
علينا أن نتصور إقليما سياحيا متنوعا يكون مركزه البترا، ويمتد من ضانا جنوب الطفيلة، ويضم قرى الشوبك وأجزاء من وادي عربة، وصولا إلى وادي رم؛ فكم سيدمج من عناصر متنوعة للجذب السياحي، ويزيد من السياحة، ويطيل فترة إقامة السائح، وكم سيستوعب من جيوب الفقر ويوفر فرص عمل.
تمكين البترا يعني مصفوفة طويلة من المنافع؛ على عشرات المجتمعات المحلية المجاورة، وعلى الاقتصاد الوطني.