الحموري.. مرارة الفراغ والغياب

الراحل الدكتور محمد الحموري-(أرشيفية)
الراحل الدكتور محمد الحموري-(أرشيفية)
محمد أبو رمان في مثل هذا الوقت من العام الماضي فقد الأردن علماً من أعلام الفقه الدستوري والعمل الوطني المحترم المبدئي، ولعلّ المعنيين بالشأن العام لا يعجزون عن الشعور بحجم الفراغ الكبير الذي تركه د. محمد الحموري، فقد كان مرجعاً للجميع في الفقه الدستوري بصورة عامة، والأردني بصورة خاصة، وبالرغم من نزعته النقدية المعروفة الجريئة وعدم مجاملته لأحد في هذا الشأن، إلاّ أنّ الجميع – سواء في السلطة أو المعارضة- كانوا ينتظرون مرافعاته فيما يتعلّق بأي شأن دستوري وتشريعي سياسي. كنتُ أنتظر هاتفه في الصباح الباكر معلّقاً ومجادلاً في أفكار متعلقة بمقالاتي (عندما أكتب في الغد)، يضع الآراء والاجتهادات في ميزان دقيق من الفقه الدستوري، وليس من السهل أبداً على أيّ سياسي، حتى لو كان متبحراً في الشأن الدستوري، أن يقف أمام ما يمتلكه الرجل من معرفة قانونية وفقهية وخبرة سياسية ممتدة، وحتى في أوقاتٍ كثيرة كانت الحكومات تضطر أن تقف على رأيه قبل أن تقوم بتعديلات تشريعية سياسية، لأنّها تدرك تماماً أن كلمته كفيلة بتغيير النقاش العام في البلاد وقلبه رأساً على عقب! بالفعل مثّل د. محمد الحموري نموذجاً استثنائياً في الحياة السياسية والفكرية الأردنية، مما أعطاه نكهة خاصة وسمة لا نجدها في غيره من السياسيين أو المثقفين أو حتى الفقهاء الدستوريين والقانونيين، وتتلخّص تلك السمة بما يمكن أن نطلق عليه "موسوعيته"، ليس فقط على صعيد تنوع قراءاته وحجم معرفته وثقافته وإطلاعه، بل أيضاً على صعيد العقلية النقدية التحليلية الصارمة التي كان يتمتع بها، أولاً، ثم على صعيد الأدوار التي قام بها والمساحات التي ملأها خلال نشاطه وأعماله، سواء على صعيد العمل السياسي بصنوفه المختلفة والمتعددة أو حتى على صعيد الموقف السياسي والكتابة الصحفية، ثم على صعيد التأليف في مجالات على درجة عالية من الأهمية، في مجال الفقه الدستوري والنظريات السياسية والفكر السياسي المقارن. وبالرغم من هذه الموسوعية في المعرفة والفكر والثقافة وتلك التعددية في الأدوار والممارسات والعمل السياسي والفكري والثقافي؛ فإنّ هنالك ثيمة رئيسية شكّلت على الدوام بؤرة اهتمام الرجل وتركيزه وتفكيره وهواجسه وأولوياته وطموحاته ألا وهي "الحرية السياسية"؛ لا نبالغ ولا نغالي إن قلنا بأنّها شكلت الرسالة السياسية والأخلاقية التي كانت تحكم أعمال وسيرته ومسيرته، ولعل هذا الاهتمام الشديد بالحرية هو الذي دفع بأصدقاء الدكتور الحموري ومريديه إطلاق لقب "كواكبي العصر" عليه، وهي مقاربة مهمة وذكية بينه وبين المفكر السياسي العربي المعروف الراحل، عبد الرحمن الكواكبي، صاحب كتابي "طبائع الاستبداد" و"أم القرى"، والكتاب الأول من أشهر الأدبيات العربية والإسلامية التاريخية التي شكّلت مرافعة فكرية وسياسية ضد الاستبداد، وهنا تحديداً نجد التشابه الكبير بين الرجلين وفكرهما؛ فالحموري كان مسكوناً بمحاربة الاستبداد وتكريس فقه وثقافة الديمقراطية والحرية السياسية، وهو ما يمكن أن نلاحظه بصورة واضحة جداً في أغلب مقالاته الفكرية والسياسية ومواقفه السياسية، بل وفي أيضاً نشاطه السياسي وفتاويه في العديد من المحطات التاريخية المهمة، ولعلّ أحد أهم تجليات هذا الاهتمام بالإضافة إلى أبحاثه القانونية والدستورية ومقالاته الغزيرة بهذا الشأن كتابه "الحريات الأسيرة: بين استبداد الحكم واستغلال الدين.. الأصول وطريق الخلاص". بدأ منذ مرحلة مبكرة في المدرسة الابتدائية بالعمل السياسي والحزبي، وبالرغم من عدم انخراطه لاحقاً بأحزاب سياسية معينة (منذ عودته من القاهرة)، إلاّ أنّه بقي مرتبطاً بالسياسات الأردنية والعمل العام، حتى تولّى حقيبة وزارة الثقافة والتراث القومي في العام 1988، في حكومة زيد الرفاعي، ثم حقيبة التعليم العالي 1991، في حكومة طاهر المصري، وبالرغم من تولي الحموري لهذه المناصب الوزارية المهمة، فإنّه لم يفارق نزعته النقدية وآراءه الإصلاحية، ولا توجهه القومي الناصري، لذلك نجده لا يتردد في أن ينسحب من حكومة المصري مع عدد محدود من الوزراء احتجاجاً على دخول الأردن محادثات السلام مع إسرائيل، بالرغم من علمه الأكيد أن ثمن ذلك قد يكون عدم عودته وزيراً أو في الحكومة، وربما الغضب عليه من دوائر القرار، لكنّه لم يتردد لحظة في الانسحاب الذي مثّل اعتراضاً ورفضاً للوصول إلى اتفاقية سلام مع إسرائيل. اشتباك الحموري مع الشأن العام والسياسي لم يقتصر على عمله في الحكومة أو حتى المشاركة في المؤتمرات القومية والسياسية، بل كان يتحدث باستمرار ويكتب في القضايا السياسية الداخلية بخاصة ما يتعلق بالإصلاح الدستوري والحريات العامة وحقوق الإنسان والديمقراطية، وهو ما نجده في جملة من دراساته ومقالاته القيمة (التي تمّ جمعها في كتاب مستقل)، يكتب في الصحافة ويحلل ويبين الفتاوى الدستورية والقانونية، لذلك بقي مرجعاً دائماً لسياسيين وحكومات ومسؤولين يعودون إليه لخبرته الكبيرة في القانون الدستوري المقارن، ولجمعه ما بين الفقه القانوني والسياسي على السواء. تميّز حضور الحموري السياسي – بشهادة كثير من السياسيين والمتابعين- بالجرأة والشجاعة في طرح الرأي والسقف النقدي العالي، وعدم التردد أو الخشية في قول ما يعتقد أنّه الصواب والأفضل للبلاد، بخاصة من زاوية الفقه الدستوري، ولقد أدت هذه النزعة الواضحة والصارمة في المواقف والفتاوى القانونية في منع العديد من مقالاته في كثير من الأحيان، خشية من السقوف السياسية العالية، وهو أمر لم يتمكن الفقه الدستوري أن يتجاوزه أو يتخطاه بداعي المرونة السياسية ومحاولة إمساك العصا من المنتصف، فمن الواضح أنّ هذه الثقافة لم تكن مستساغة لديه أبداً، وأذكر أنه تحدث معي مطولاً (على الهاتف في إحدى المرات متحدثاً عن مقالٍ له عال المستوى لم توافق إحدى الصحف اليومية على نشره) وكانت عبارته التي لا أزال أذكرها "يا بني إما أن تقول الحقيقة كاملة كما هي أو لا تكتب أو تتحدث، فهنالك مواقف لا يمكن فيها التورية أو التلون". شارك الفقيه الدستوري والسياسي العريق والمثقف والمفكر الحموري في تأسيس حزب الشراكة والإنقاذ (في العام 2017) وكان عملياً هو المرجعية الدستورية والفكرية والسياسية للحزب وأحد أبرز منظّريه بالإضافة إلى الشيخ سالم الفلاحات (المراقب العام الأسبق لجماعة الإخوان وأحد السياسيين البارزين في الأردن)، وتولى منصب الأمانة العامة للحزب، وشارك في إعداد أوراقه والأفكار التي تبناها في المشهد السياسي بصورة كبيرة، فلم يترك العمل السياسي ولم يتخلّ عنه حتى آخر أيام حياته، فقد بدأ منذ المرحلة الابتدائية في العمل السياسي الوطني وأنهى حياته سياسياً وحزبياً أيضاً. رحمك الله أبا طارق كنت علماً ومنارة للجميع، من يسيرون على الدرب يأملون في يوم مشرق بالديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية، ومن ضلوا الطريق ويرون فيك النموذج الذي بقي قابضاً على جمر المبادئ والقيم، وإذا كان هنالك عزاء فهو أنك تركت لنا ميراثاً فكرياً وسياسياً وفقهياً سيبقى يشير إلى علم من أعلام الفقه والسياسة الأردنية نقف إجلالاً واحتراماً كلما ذُكر اسمه. اقرأ أيضاً:  اضافة اعلان