الحنين الإمبريالي: أي الإمبراطوريات كانت أفضل.. ولماذا؟

الجيش التركي في طريقه إلى احتلال مدينة تونس في العام 1569 – (أرشيفية)
الجيش التركي في طريقه إلى احتلال مدينة تونس في العام 1569 – (أرشيفية)

نِك دانفورث* – (فورين أفيرز) 19/8/2015

 ترجمة: علاء الدين أبو زينة

سوف يعثر المرء في المكتبات في جميع أنحاء العالم بلا شك على أعمال أساتذة ماركسيين حريصين على التحدث مطولاً عن شرور الإمبريالية الأميركية. لكن هؤلاء، في تركيا فقط، يبدون حريصين على الإعلاء من شأن الإمبريالية العثمانية، باعتبارها البديل الأكثر استنارة: لقد هيمنت الإمبراطوريتان الأميركية والبريطانية على الشرق الأوسط من خلال استخدام القوة العسكرية، كما تقول أطروحتهم، لمجرد استغلال موارد المنطقة فقط. أما العثمانيون، في المقابل، فقد تمكنوا من تأمين موافقة المحكومين من خلال تزويدهم بالاستقرار، والعدالة والازدهار. وفي الحقيقة، وفي ضوء ممارسات الحكومة العثمانية السياسية التي شملت الجميع، كان يمكنك بالكاد أن تصفها بالامبراطورية.
ربما يحاجج أميركي أكثر ثقة بالقدرة على ترجمة عبارة "ترسانة الديمقراطية"، بأنها الولايات المتحدة هي التي كانت قد أقامت إمبراطورية بالغة العظمة والروعة حقاً، إلى درجة أنها لم تكن إمبراطورية على الإطلاق. وإذا كان ثمة شيء، فهو أن "الإمبراطورية الأميركية" كانت إمبراطورية حرية؛ إمبراطورية بالدعوة (الشعوب هي التي تدعوها إلى القدوم)، وربما موضع ترحيب في كل أنحاء العالم بسبب إحلالها النظام والثروة محل الفوضى والعوز.
ثمة تاريخ طويل للأشخاص الذين يمجدون الإمبريالية كبديل أكثر تحضراً عن عدم الاستقرار المصحوب بالعنف –وتراث طويل بنفس المقدار من الجدل حول أي من الإمبراطوريات هي التي أبلت حسناً أكثر من الأخريات. وتعتمد الكثير من هذه الحجج، مثل المذكورة أعلاه، على قراءات انتقائية للتاريخ، والتي تقلل من شأن -أو تتجاهل- دور الإكراه العنيف في الحكم الإمبريالي. وبإضفاء ما يكفي من الرومانسية عليه، يمكن حتى تجنيد هذا النوع من الحنين الإمبريالي جوهرياً لدعم المقترحات الليبرالية بإقامة نظام دولي للسلام، مثل الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي. ولنتأمل تجربة عمل أوتو رون هابسبورغ: ولأنه ولد ولياً لعهد الإمبراطورية النمساوية-المجرية، أصبح أوتو لاحقاً مدافعاً متحمساً عن فكرة التكامل الأوروبي، مستشهداً بالنجاح المفترض لحكم هابسبورغ أثناء خدمته كرئيس لاتحاد الوحدة الأوروبية الدولي، وكعضو بارز في برلمان الاتحاد الأوروبي.
لكنْ ثمة آخرون، في مواجهة عدم الاستقرار العالمي، منجذبون إلى نسخة مختلفة وأكثر واقعية من الحنين الإمبريالي، نسخة تعتنق فكرة اعتماد الإمبريالية على العنف للقول بأن القوة وحدها يمكن أن تجلب النظام الذي تمس الحاجة إليه إلى عالم محفوف بالمخاطر. وليس الأمر أن هناك أحداً يجادل لصالح غزو معاصر للعالم غير الغربي، بطبيعة الحال. لكن الكثير من الناس يغزلون على منوال الماضي الإمبريالي لتبرير إيمانهم بأن القوة العسكرية الأميركية يمكنها أن تتعامل بطريقة موثوقة مع دول العالم الثالث المتمردة. وعلى عكس البديل الأقل عنفاً، تسعى هذه النسخة من الحنين الإمبريالي إلى استباق الانتقادات الليبرالية لأهوال الإمبراطورية وإفراغها من مضمونها عبر نداء لالتماس سياسة واقعية شرسة وحادة في تعبيراتها.
على نحو ليس أقل من حنين إمبريالي مزوق بالورد، يتجاهل الهوس بمنطق القوة حقيقة أن معظم الإمبرياليين نجحوا عن طريق استخدام مزيج من الموافقة والإكراه الذي جرت معايرته بعناية ليناسب الظروف التي واجهوها. والأهم من ذلك أن الإمبريالية الغربية ازدهرت، لبعض الوقت، عن طريق إقامة تمييز واضح بين مناطق الإكراه ومناطق الموافقة –بمعنى إقامة تمييز بين مناطق العالم الثالث الأكثر ضعفاً والتي تمكن السيطرة عليها بالقوة، وبين الخصوم الإمبرياليين الأكثر قوة، الذين تطلب التعامل معهم استخدام دبلوماسية حذرة وتعاوناً حسن التنسيق.
مشكلة الإمبرياليين الجدد neoimperialists اليوم هي أنه ليس من الواضح مطلقاً بالنسبة لهم أين يجب وضع ذلك الخط. وعلى سبيل المثال، ربما يكون التهديد بالقوة العسكرية الأميركية قد ساعد في إنهاء برنامج ليبيا النووي، لكنه يبقى غير ذي صلة إلى حد كبير في التعامل مع الخطر الأكبر بكثير، والذي تشكله باكستان النووية. ويعكس الجدال الدائر حول أفضل الطرق للتعامل مع الطموحات النووية الإيرانية في جزء منه أفهاماً متفارقة بشكل كبير حول كم يمكن أن يكون استخدام القوة فعالاً في حالة إيران.
يميل الحنين إلى الماضي الإمبريالي بشكل طبيعي إلى التركيز على الإمبراطوريات التي سادت. ولكن، وكما يبين التاريخ الدموي بشكل خاص لأوروبا الشرقية ومنطقة البلقان، فإن محاولة تأسيس إمبراطورية في المكان الخطأ وحكم الناس الخطأ بالقوة يمكن أن يأتي بتداعيات كارثية. وهو السبب، بغض النظر عن الحنين إلى الماضي، في أن تاريخ الإمبريالية، بنجاحاته وإخفاقاته، يعرض حجة براغماتية مدهشة لصالح انتهاج سياسة خارجية أكثر تعددية في الأطراف وأقل إمبريالية في هذه الآونة.
العصر الذهبي
كان العصر الذهبي للإمبريالية الأوروبية، بالمعايير المنخفضة التي وضعها الأوروبيون لأنفسهم، عصراً ذهبياً للتعاون الأوروبي أيضاً. وكما لوحظ في كثير من الأحيان، فقد بنت المملكة المتحدة وفرنسا إمبراطوريتيهما خلال قرن كان فيه "تناغم أوروبا" الذي حظي بالكثير من الإشادة، يحول دون اندلاع صراع مفتوح في القارة. ولبعض الوقت، قبل أن ينهار السلام، احتفظت القوى الأوروبية بحكمها العالمي عن طريق جلب النظام للمستعمرات على حد البندقية وبتهديد السلاح، وإدامته فيما بينها هي نفسها باستخدام الدبلوماسية الذكية.
في حالة روسيا، على سبيل المثال، التي كانت منافس إنجلترا الإمبريالية لجزء كبير من القرن الماضي، اندلع الصراع المفتوح بينهما مرة واحدة فقط ولفترة وجيزة جداً، خلال "حرب القرم". وحتى لو أن الحرب العالمية الأولى اندلعت، كما يقول الكثيرون، إما لأن ألمانيا أرادت قطعة أكبر من الكعكة الإمبريالية أو لأن النهج العسكري الذي كان مركزياً جداً لحكم الإمبريالية استهلك كل المتورطين في نهاية المطاف، فإن ذلك لم يتسبب كلياً بإلغاء دور التعاون الإمبريالي. وقد كسبت المملكة المتحدة الحرب، في جزء منه، لأنها كانت راغبة بما يكفي على مدى القرن الماضي في تقاسم غنائم نظامها الإمبريالي مع الولايات المتحدة، مانحة الولايات المتحدة مصلحة في القدوم للإنقاذ ومد يد العون.
في المقابل، بنت الولايات المتحدة قوتها العالمية وحافظت عليها عن طريق إدارتها الماهرة للتمييز بين الأماكن التي اعتمدت فيها إلى حد كبير على الإكراه بالقوة، وبين الأماكن التي تبنت فيها نهجاً أكثر تعاونية. وعلى سبيل المثال، كان تيدي روزفيلت أممياً ملتزماً، والذي ساعد بالتزامن في بناء إمبراطورية أميركية في أميركا اللاتينية. كما ساد تمييز مماثل خلال حقبة الحرب الباردة: في أوروبا الغربية، اتخذ النفوذ الأميركي شكل حلف "الناتو". وفي حين حاول السوفيات، وفشلوا، حكم إمبراطوريتهم الشرق أوروبية بالقوة، استخدمت واشنطن حلف شمال الأطلسي لتأسيس "إمبراطورية بالدعوة" حقاً، واستطاعت إدامتها بنفس الروحية. وعندما انسحبت فرنسا من هيكل قيادة الناتو في العام 1966 (إذا استشهدنا بأكثر الأمثلة شهرة)، لم تقم الولايات المتحدة بإرسال الدبابات إلى باريس بالطريقة التي فعلها السوفيات في بودابيست وبراغ.
مع ذلك، في العالم الثالث، احتفظت واشنطن، مع كل خطابها المناهض للإمبريالية، بشيء أقرب كثيراً إلى نظام إمبريالي تقليدي، معتمدة على الانقلابات، والاغتيالات، وفي بعض الأحيان على الغزو المباشر، من أجل إدامة النفوذ الأميركي. ولم يكن هناك أحد أكثر تناغماً –وبطريقة مريرة- مع نفاق الخطابة الأميركية المناهضة للإمبريالية، أكثر من المسؤولين الكولنياليين البريطانيين، الذين قضى الكثيرون منهم الفترة الأولى من حقبة الحرب الباردة وهم يكتبون المذكرات النكدة للشكوى من أن واشنطن سرقت إمبراطوريتهم من تحت أقدامهم. بل وبدا بعضهم وكأنه يقترح أن الولايات المتحدة، بتقديمها نفسها كقوة مناهضة للإمبريالية في العالم، لم تكن أفضل من الإمبراطورية اليابانية التي كانت قد أطرت طموحاتها الإمبريالية بالخطابة المناهضة للإمبريالية أيضاً، تحت عنوان "منطقة شرق آسيا الكبرى للازدهار المشترك".
لكن الفكرة هنا لا تتعلق بالنفاق الأميركي. بدلاً من ذلك، وبعد التخلص من عنصر الخطابة، يصبح من الواضح أن صناع السياسة الأميركية يحتفظون، بغض النظر عما يقولونه، بحس واضح جداً بأين يستطيعون الاعتماد على الإكراه وأين سيكون من الأفضل اتخاذ نهج أكثر تعاونية. كما يجب أن يكون الإمبرياليون الجدد الذي يفترض أنهم مدفوعون بالسياسة الواقعية اليوم، قادرين أيضاً على إقامة مثل هذه القسمة. فبعد كل شيء، لم تقم الإمبراطورية البريطانية بتحويل نفسها إلى "كومونويلث" لأن قادتها أصبحوا ألين عريكة، بأكثر مما بنى الرئيس الروسي فلاديمير بوتِن كومونويلثه الما بعد سوفياتي من الدول المستقلة، لأنه يهتم برفاههم المشترك. بالأحرى، حدثت هذه التحولات لأن التفاوت الكبير في القوة، والذي كان قد جعل من الممكن للقوى الإمبريالية أن تحكم مساحات واسعة من العالم باستخدام القوة، قد اختفى. ولذلك ترتب على تلك القوى الإمبريالية أن تجترح خطة جديدة.
دروس الإمبراطورية
لا يحتاج معجبو الإمبراطورية الواقعيون إلى النظر أبعد من شرق أوروبا ومنطقة البلقان ليجدوا مثالاً على مخاطر الغموض حول مَن هو القابل لاستعماره ومن هو ليس كذلك. فبالإضافة إلى ارتباطها بأسوأ التجاوزات التي ترتكبها القومية الحديثة، شهدت هذه المنطقة أشكالاً عنيفة من الحكم العثماني، والنمساوي-المجري، والألماني والسوفياتي خلال مسار القرن العشرين. وخلال فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، ركزت حملة الرئيس الأميركي وودرو ويلسون من أجل تقرير المصير الوطني المناهض للإمبريالية على منطقة البلقان وأوروبا الشرقية. وفي حين ركزت الدعاية الألمانية بشكل طبيعي على المستعمرات البريطانية والفرنسية فيما وراء البحار، أبرزت الدعاية الأميركية "القوميات الخاضعة للتحالف الألماني". وقد ساعد انتصار الحلفاء في الحرب، مصحوباً بالفوارق في القوة وهيمنة العنصرية الغربية، في تخليق إجماع، لفترة وجيزة على الأقل، على أن الحكم الإمبريالي كان صالحاً لأفريقيا وآسيا، وإنما ليس صالحاً لما كان يُعتبر أكثر الأجزاء تخلفاً في القارة الأوروبية. وقد عانت عصبة الأمم مع هذا التوتر بين الإمبريالية والقومية منذ البداية، لكن المشكلة الحقيقية جاءت عندما رفضت ألمانيا النازية القبول بإجماع أوروبا الجديد حول مَن هو الطرف الذي يمكن استعماره. وكما فصَّل أستاذ جامعة كولومبيا، مارك مازوير، في كتابه "إمبراطورية هتلر"، فإن الألمان، متسلحين بنموذجهم الخاص المعدل ومعاد التوجيه للعنصرية، سعوا إلى فرض نظامهم الإمبريالي الخاص بالقوة على أوروبا الشرقية، ومنطقة البلقان، ثم كل أوروبا في نهاية المطاف.
كان الحكم الألماني في البلقان كارثة أخلاقية، وقصير الأجل جداً على حد سواء. والأكثر من ذلك أن الاضطرابات التي نجمت عن إخفاقه أفضت مباشرة إلى تأسيس الإمبراطورية السوفياتية في المنطقة، وإلى قيام الحرب الباردة أيضاً. وقد تمكنت موسكو من الاحتفاظ ببعض السلطة تحت تهديد السلاح، لكن إمبراطوريتها دامت بالكاد نصف قرن في مواجهة المعارضة الشعبية. وبالمقارنة، استمرت الإمبراطوريات الأوروبية في العالم الثالث لأكثر من قرن كامل في بعض الحالات، قبل أن يفقد الأوروبيون تخمة القوة اللازمة للحفاظ عليها. وفي أوروبا، لم يتمكن الألمان والروس أبداً من تحقيق ذلك تماماً، ووصلت إمبراطورياتهم إلى نهاية أسرع بكثير، بسبب عدم قدرتهم على الحكم إما بالموافقة أو بالإكراه.
لم تكن الإمبراطورية النمساوية-الهنغارية نسخة القرن التاسع عشر من الاتحاد الأوروبي، كما لم تكن الإمبراطورية التركية نموذجاً للتسامح الليبرالي بالشكل الذي يتخيلها عليه المعجبون بها في بعض الأحيان. لكنها لم تكن أيضاً نظاماً استبدادياً وحشياً متعطشاً للدماء، والتي يجري تذكرها في تواريخ البلقان الغاضبة أو في العقائد الكارهة للإسلام. لقد تمكنت تلك الإمبراطوريات، مثلما تفعل الولايات المتحدة اليوم، من تأمين قدر من الاستقرار والتكامل الإقليمي من خلال استخدام مزيج يجمع بين الموافقة والإكراه. ولن يكون حذف العنف من تاريخ أي إمبراطورية أقل غرائبية من اعتناق العنف كطريق إلى الاستقرار ما-بعد-الكولنيالي تحت قناع الواقعية. وما يزال التحدي المتمثل في ضمان العدالة والنظام في عالم فوضوي محبطاً بما يكفي من دون تشتيت الانتباه الذي يصنعه أي واحد من هذه الأوهام.
لعل الأهم من ذلك، هو أن ذلك الجزء من الكوكب الذي تمكن الهيمنة عليه من خلال القوة وحدها قد تقلص على مدى القرن الماضي. وهو درس واجهته الولايات المتحدة في العراق وليبيا –وواحد تغامر الحكومة التركية، التي وجد حنينها الإمبريالي الخاص مصلحة مكتشفة حديثاً في استعمال منطق القوة- بتعلمه في سورية. ربما يحسن أولئك الذين يسعون إلى الاحتفاظ بالنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة صنعاً إذا نظروا في اتجاه الاستراتيجيات التي صانت هذا النظام في المناطق حيث أدرك صناع السياسة الأميركيون أن منطق الإكراه وحده لن يكون كافياً.

*مرشح لنيل درجة الدكتوراة في التاريخ التركي في جامعة جورج تاون.
*نشر هذا الموضوع تحت عنوان:
Imperial Nostalgia: Who Did It Better—And Why It Matters

اضافة اعلان

[email protected]

@alaeddin1963