الحنين للاستبداد!

مطلع العام 2011، بدا العالم العربي في طريقه للخروج من استثنائيته العالمية الأسوأ، وهو الذي "نجا" -رغم كل التغييرات التي عصفت بالعالم ككل على امتداد قرون وليس عقود- من ثلاث موجات عالمية للديمقراطية، بحسب تصنيف عالم الاجتماع الأميركي صمويل هنتنتغتون.اضافة اعلان
لكن ما اصطلح على تسميته، من باب التفاؤل غالباً، بـ"الربيع العربي"، لم يفض بالنتيجة إلا إلى الجرأة في إعلاء شأن تلك الاستثنائية وتمجيدها بشكل صريح، من خلال "الحنين للاستبداد". تعبر عن ذلك خصوصاً وتروج له، شريحة من المدرجين، بغض النظر عن الآلية، في خانة المفكرين والمثقفين. ولعل الأبرز هنا هو المساواة في هذا الحنين بين كل المستبدين؛ فلا فرق بين صدام حسين "القومي" مثلاً، وحسني مبارك الذي كان متهماً دوماً بتنفيذ الأجندة الأميركية الداعمة لإسرائيل، أو حتى معمر القذافي الذي سيطر على بلد غني، إنما فقط ليبقي شعبه في قاع الفقر، اقتصادياً كما على كل صعيد آخر، وفوقها قذف بالفلسطينيين -الذريعة الدائمة لتبرير الاستبداد- على الحدود.
طبعاً، أول دوافع هذا الحنين المتحلي بـ"الموضوعية"، من خلال رد الاعتبار لكل المستبدين، يستبطن إن لم يكن يُظهر جلياً، نظرية المؤامرة، لاسيما بعد أن امتدت الثورات إلى أنظمة "قومجية" (وبالشعارات فقط) لا تقل حياة شعوبها بؤساً عن الأنظمة المسماة "عميلة"! فكان لا مناص من رد الاعتبار للعملاء كما "الممانعين" على حد سواء، مع بعض الاستثناءات القليلة التي يجسدها أتباع إيران في العالم العربي إلى اليوم، لاسيما حسن نصرالله، باعتبار الحراك "الشيعي" فقط في بلد ما ثورة محقة، وما عداه طائفياً محض مؤامرة صهيو-أميركية!
مع تهافت نظرية المؤامرة الكونية، على وقع ضربات تحالفات أنظمة "الممانعة والمقاومة" ذاتها؛ في العراق (ومن خلفه إيران) مع الولايات المتحدة، وصولاً إلى التنسيق، غير المباشر في أحسن الظروف، مع إسرائيل من خلال روسيا في سورية (ومن خلفها إيران أيضاً)، فقد تحول مبرر "الحنين للاستبداد" إلى اللعب على وتر عدم الاستقرار والدمار اللذين نتجا عن الثورات العربية؛ وملخص ذلك بالعامية "كنتو عايشين"!
طبعاً، لا يتوقف القائلون بذلك عند حقيقة أن الدمار الذي لحق ببلدان الثورات كان بيد الأنظمة التي استخدمت جيوشها لأول مرة منذ عقود، ضد عدوها الحقيقي؛ الشعب، الذي يريد استرداد حقوقه المسلوبة، مادية ومعنوية. فمن وجهة نظر هؤلاء يبدو قتل الشعوب مبرراً لأنها لم تصل بعد، ولن تصل أبداً، إلى النضج الذي يؤهلها للديمقراطية. وهي ذريعة يمكن إيجادها في كتابات عنصرية فقط، لمستشرقين أو منظرين لسمو الرجل الأبيض الأوروبي، لكنها اليوم تبدو ذريعة عربية أيضاً! تجعل شعوب المنطقة استثناء على الإنسانية ذاتها، المجبولة على السعي نحو الحرية والكرامة، كما تؤكد كل ثورات العالم القديمة والحديثة، الكبرى والصغيرة.
ولعل وجه الغرابة الأكبر هنا حين يتم الحديث عن عدم النضج الثقافي الديمقراطي من قبل مفكرين ومثقفين عرب "مزمنين". فالسؤال الأول الذي لا بد وأن يتبادر إلى الذهن: ماذا كان يفعل هؤلاء على امتداد عقود مضت؟ وإذا كان قولهم اعترافاً موصوفاً بفشلهم، فلماذا يواصلون الكتابة، ولمن؟ مرة أخرى، السؤال ببساطة: ماذا يريدون؟ فقط شعوب "عايشة" بالفقر والإذلال؟!.. لكن لماذا؟!