الحوكمة في المنطقة العربية: الاستجابات العامة لفيروس كورونا (2)

figuur-i
figuur-i

خبراء - (معهد بروكينغز) 2020/9/3

في 16 حزيران (يونيو) 2020، أقام مركز بروكينغز الدوحة وكلّية السياسات العامة في جامعة حمد بن خليفة ورشة عمل مشتركة عبر الإنترنت لمناقشة الحوكمة في المنطقة العربية، وما الدروس التي يمكن تعلُّمها من الاستجابات لأزمة فيروس كورونا المستجدّ. وفيما يلي بعض من آراء الخبراء.

  • * *
    على الحكومات العربية تعزيز الحوكمة الشاملة خلال جائحة فيروس كورونا المستجدّ
    بسمة المومني*
    في خضم الجائحة، أُرغِمت الدول العربية على مواجهة الانهيار العالمي في أسعار النفط وتراجع العوائد وتحويلات العاملين وتراجع في الاستثمارات والمساعدات الأجنبية. وفي الوقت عينه، تواجه هذه الدول مطالب سياسية واجتماعية متزايدة من شعوب شابّة نسبياً تنشد الوظائف اللائقة والازدهار الاقتصادي والحكومات الخاضعة للمساءلة. وفي منطقة يُبدي فيها المواطنون ثقة عامة منخفضة بمسؤوليهم وسلطاتهم، سينبغي على الحكومات وصانعي السياسات إبداء المزيد من الانتباه إلى مطالب شعوبهم.
    وسوف يترتب على الحكومات العربية تقديم المزيد من الخدمات الاجتماعية لمواجهة الضائقة الاقتصادية، حتى مع تراجع عائدات الحكومة باستمرار. وعليها أيضاً أن تكسب دعماً واسع النطاق لتطبيق سياساتها. وإذا عجزت الحكومات عن تلبية حاجات المواطنين وكسب دعم مجتمعي واسع لسياساتها، يمكن أن تواجه المزيد من التحديات السياسية لحكمها، بما في ذلك التظاهرات الشعبية والاحتجاجات والإضرابات العمالية والتحدي الصريح للسلطات. وفي فترات الأزمة، قد لا يكون اعتماد مقاربة شاملة وتعاونية في صناعة السياسات أمراً سهلاً، لكنّه حاسم للحرص على أنّ لا تتحول الاشتباكات حول موارد الدولة المتضائلة إلى مواجهة صريحة.
    علاوة على التواصل السياسي المستمر والفعّال مع المواطنين، تتطلّب الحكومة الشاملة والتشاركية الانخراط مع المجتمع المدني والمجموعات الشبابية والأحزاب السياسية والمجموعات العمالية والنقابات المهنية لرسم مسار للسير قدماً للاقتصادات والمجتمعات العربية. وعندما تُضفى المؤسسية على التعاون على المستوى الوطني، من خلال الخطابات الوطنية أم المساومة أم المناظرات العامة، فسيمكن تحقيق دعم سياسي أفضل ويمكن تطبيق السياسات بفعالية أكبر.
    لبناء الثقة الشعبية وترسيخها، ستكون الشفافية والمساءلة عنصرين حاسمين. وتشكّك الجماهير العربية -محقّة- في إجراءات الشفافية السابقة التي اعتمدتها حكوماتها، خاصة بشأن الأموال العامة والماليات الحكومية. ولكي تطلب الحكومات العربية من المواطنين تحمّل الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية المتوقّعة الناتجة عن هذه الجائحة العالمية، سيكون عليها أن تُبرز لمواطنيها القيود المفروضة على تدفق الإيرادات وتخصيص الماليات الوطنية. وستتطلب أي سياسة يتم اختيارها مقايضات، وسيكون من المهم للحكومات أن تشرح المنطق الذي دفعها إلى اعتماد خياراتها. وسوف تفرض الطبيعة الحرجة للجائحة والركود الاقتصادي العميق الذي ستسبّبه أنماطاً جديدة من الحوكمة على الأرجح.
    للمحافظة على زخم الاقتصادات في فترة فيروس كورونا المستجدّ، يترتب على الحكومات كسب ثقة مواطنيها. ومن شأن زيادة ظهور السلطات الصحّية التي يمكنها التواصل بفعالية مع الناس لبناء الثقة والامتثال والدعم أداةً أساسية في متناول الحكومات العربية. وغالباً ما يكون من المغري اللجوء إلى القوى الأمنية لتطبيق إرشادات الصحّة العامة هذه، لكنّ ذلك سيزيد من مخاوف الشعب من فقدان حقوقه المدنية. ففي منطقة سبق وأن شهدت أحداث الربيع العربي وحيث تبقى الثقة الشعبية بالحكومات منخفضة، من غير المحبّذ منح المزيد من القدرة للأجهزة الأمنية، مثل الجيش والشرطة وسلطات الاستخبارات، لتطبيق إرشادات الصحّة العامة. وعوضاً عن ذلك، تستطيع الحكومات العربية الاستفادة من الجائحة لوضع مسار سياسي اقتصادي جديد مع مواطنيها، لكنها لن تتمكن من ذلك ما لم تأخذ على عاتقها القيام بمهمة صعبة، ألا وهي بناء إجماع وثقة ومساءلة واسعة النطاق.
  • * *
    فيروس كورونا المستجدّ قد يوفر فرصة للحكومات العربية لإعادة بناء الثقة
    مايكل روبنز*
    بينما تراجعت الثقة بالحكومات بشكل كبير في المنطقة العربية على مدى العقد المنصرم، تقدّم أزمة فيروس كورونا المستجدّ إمكانية للحكومات لإعادة ترتيب الأوضاع. وفي الفترة التي بدأ فيها الباروميتر العربي بإجراء استطلاعات رأي عامة وطنية التمثيل في المنطقة منذ العام 2006، كانت الثقة بالحكومات في أوجها خلال ثورات الربيع العربي في العام 2011، مع نسبة 53 في المائة. وفيما تُرجمت التغيّرات السياسية في دول مثل تونس بدعم واسع للحكومة، كان مستوى الثقة مرتفعاً حتّى في دول مثل الأردن، الذي لم تشهد أيّ تغييرات خلال الثورات.
    ولكن، بحلول العام 2018، تراجعت الثقة في أرجاء المنطقة إلى 34 في المائة فقط. وكان التراجع الأبرز في تونس حيث انخفض مستوى الثقة من 42 إلى 20 نقطة فقط، ويبدو التونسيون محبطين أكثر فأكثر من فشل حكومتهم المستمرّ في معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي أدّت إلى الثورة في العام 2011. بيد أنّ الثقة تراجعت أيضاً في الدول التي لم تشهد تغييراً يُذكر نتيجة الثورات العربية. فعلى سبيل المثال، بلغ التراجع في الأردن 34 نقطة على مدى الفترة عينها ليصل إلى 38 في المائة. وباختصار، أدّى عجز الحكومات على مختلف أشكالها في المنطقة عن معالجة المشاكل الأساسية، مثل الفساد والأوضاع الاقتصادية، إلى أزمة ثقة سياسية.
    وعندما أصبح فيروس كورونا المستجدّ مصدر قلق كبيراً في المنطقة العربية، باتت الحكومات مرغمة على اتّخاذ قرارات صعبة. وتشير الأدلّة المُحصّلة من أرجاء العالم إلى أنّ الحكومات التي اتّخذت خطوات قوية للحؤول دون تفشّي الفيروس، حتّى على حساب الصحّة الاقتصادية، لاقت استحسان مواطنيها. وفي الأثناء، سجّلت الحكومات التي عجزت عن حماية مواطنيها بالحد من عدد حالات الإصابة بالفيروس والوفاة بسببه مستوى ثقة أدنى.
    بغضّ النظر عن نوع النظام، تعتمد شرعية الحكومة في جزء كبير منها على القدرة على تحسين ظروف المواطنين العاديين. وقد منحت جائحة فيروس كورونا المستجدّ فرصة واضحة للحكومات لتبرهن على قدرتها على حماية أرواح الناس. مثلاً، حدّت الإجراءات الحاسمة التي اتّخذها الأردن عبر إغلاق حدوده وإغلاق البلاد وتأمين الحاجات الأساسية لمواطنيه من تفشّي فيروس كورونا المستجدّ وبيّن جدارة الحكومة. وأخذت دول أخرى، مثل المغرب ولبنان ودول عدّة في مجلس التعاون الخليجي، خطوات حاسمة، من ضمنها فرض الإغلاق الكامل ووقف المواصلات الدولية. ومن المرجّح أن تلقى هذه الجهود الأولية استحسان مواطني هذه الدول. لكنّ دولاً أخرى مثل العراق لم تتّسم أبداً بالفعالية ذاتها في العثور على سبلٍ للحدّ من تفشّي الجائحة أو تحسين تداعياتها، ما يعني أنّ الثقة بالحكومة ستنخفض على الأرجح.
    بالإجمال، من غير المرجّح أن تدوم الآثار الإيجابية المحتملة للجائحة على الثقة في دول مثل الأردن والمغرب ولبنان إذا لم تتمكّن حكوماتها من معالجة التحديات القائمة التي تواجهها مجتمعاتها منذ زمن. ففي لبنان مثلاً، قوّض فشلُ الحكومة في منع الانفجار الضخم في المرفأ بوضوح أيَّ زيادة في الثقة نتجت عن الاستجابة الأولية لفيروس كورونا المستجدّ التي كانت أفضل من المتوقّع. وفيما يؤدّي الأداء الإيجابي إزاء فيروس كورونا المستجدّ إلى فرص جديدة على الأرجح، ينبغي على الحكومات العربية أن تستمرّ في تلبية توقّعات المواطنين لكي تعكس بشكل دائم الانخفاض في مستوى الثقة الحاصل منذ عقود.
  • * *
    يمكن أن يعزّز كورونا الفساد والمحسوبيات في الأنظمة السياسة الإدارية العربية
    راحيل شومايكر*
    تتّصف أكثرية الدول في المنطقة العربية بمستويات عالية من المحسوبية والمحاباة والفساد مقارنة بالمعدّلات العالمية. وهي تواجه أيضاً تعثراً في الإصلاحات الإدارية وانعدام الثقة، ويبرز هذان العنصران ضمن النظام الإداري السياسي وبين الدولة والمواطنين على حدّ سواء. وفيما حاولت دول مختلفة معالجة هذه المسائل في المرحلة التي تلت ما عُرف بـ"الربيع العربي"، تهدّد الجائحة الحالية بتقويض هذه الجهود أو الإطاحة بها. ولم يكن للجائحة أثرٌ اقتصادي سلبي في المنطقة فحسب، مؤدّية إلى خسارة نحو 50 مليون وظيفة وإفلاس بعض الشركات وازدياد الدين العام، بل شكّلت أيضاً تحديات كبيرة للإدارة العامة، التي تواجه صعوبة بالغة في إدارة الأعباء الإضافية التي ترتّبها الرقمنة العفوية وتعقّب العدوى وتنفيذ قرارات الإغلاق الكامل.
    وفيما تشير بعض الأدلّة إلى أنّ حكومات عربية تستغلّ الجائحة لترسيخ الحكم السلطوي، تبرز بعض الإشارات إلى أنّ الإدارة العامة في تلك الدول لم تعد قادرة على اتّباع قواعد الحوكمة الرشيدة. ففي فترات الأزمات، غالباً ما يتمّ تجاهل إجراءات الإشراف لصالح السرعة والتنسيق في العمل لمواجهة الأزمة، وربّما تكون القدرات الإدارية منهمكة في نشاطات أخرى.
    وقد فتح غياب الإشراف هذا خلال الجائحة المجالَ للفساد والمحسوبية في مجالات مثل المشتريات العامة وتنفيذ إجراءات الصحّة العامة. ففي مصر مثلاً، طبّقت السلطات العامة منع التجوّل بعناية أكبر في الأحياء الثرية، فيما أفيد عن حالات عدّة من الفساد المرتبط بفيروس كورونا المستجدّ في المملكة العربية السعودية، بما في ذلك رشوة مديري فنادق للتغاضي عن إجراءات الحجر الصارمة.
    في غضون ذلك، في دول كانت ضعيفة اقتصادياً واجتماعياً قبل وصول الجائحة مثل لبنان، خفّضت الأزمة أكثر فأكثر من الثقة بالنخب السياسية وأدّت إلى اضطرابات اجتماعية واحتجاجات. وفيما يثق الناس عادة بالمعلومات التي تقدّمها الدولة في الكثير من الدول حول العالم، هناك نسبة كبيرة من الناس في العالم العربي مقتنعةٌ بأنّ جزءاً كبيراً من المعلومات التي تتلقّاها حول الفيروس غير دقيق، ما أدّى إلى انخفاض الثقة بالإعلام والمصادر الرسمية.
    بعيداً عن التحدّي الضخم الذي يفرضه تطبيق إجراءات وبائية خلال الجائحة، تواجه الأنظمة السياسية الإدارية في المنطقة العربية تحدّي المحافظة على ثقة الشعب في الإدارة العامة والحكومة أو (إعادة) بنائها. وفيما ترتبط مستويات الثقة العالية بشكل أكبر مع الصراحة والشفافية في صناعة القرارات ومع مستويات منخفضة من التكتّم الإداري، من شأن إتاحة معلومات أكثر تفصيلاً عن الخطوات العامة المتّخذة خلال الجائحة أن تشكّل خطوة أولى نحو إعادة بناء ثقة الشعب والحدّ من الفساد.
اضافة اعلان

*بسمة المومني، أستاذة في قسم العلوم السياسية في جامعة واترلو.
*مايكل روبنز، مدير مشروع، الباروميتر العربي.
*راحيل شومايكر، أستاذة في الاقتصاد في جامعة كارينثيا للعلوم التطبيقية في فيلاتش وزميلة بحث معيدة في معهد البحوث الألماني للإدارة العامة في شبيير.