الحوكمة في المنطقة العربية: الاستجابات العامة لفيروس كورونا المستجدّ (1)

مقدّمة
طرحت أزمة فيروس كورونا المستجدّ امتحاناً صعباً على الدول العربية التي تواجه أصلاً تحديات حوكمية ومؤسّساتية قبل بروز الجائحة. وقد وصلت أنظمة الرعاية الصحّية والاقتصادات لدى معظم الدول العربية إلى أقصى حدود قدراتها. وفيما باتت الدول الهشّة والمتأثّرة بالصراعات مكشوفة بشكل كبير، فحتّى الدول المستقّرة ذات الدخل الأعلى في المنطقة تأثّرت إلى حدّ بعيد.
في 16 حزيران (يونيو) 2020، أقام مركز بروكنغز الدوحة وكلّية السياسات العامة في جامعة حمد بن خليفة ورشة عمل مشتركة عبر الإنترنت لمناقشة الحوكمة في المنطقة العربية، وما الدروس التي يمكن تعلُّمها من الاستجابات لأزمة فيروس كورونا المستجدّ. وضمّ المشاركون في ورشة العمل عدداً من الخبراء المرموقين الذين يعملون في الجامعات ومراكز البحوث والمنظّمات الدولية. وبحث هؤلاء الخبراء في الطريقة التي كشفت بها الجائحة عن مشاكل الحوكمة في المنطقة العربية وزادت من حدّتها، وبحثوا أيضاً في الطريقة التي قد تؤمّن بها الأزمة فرصة لصانعي السياسات العرب والمجتمع الدولي لإعادة التفكير في الاستجابات المؤسساتية والتغلّب على شوائب الحوكمة.
في مجموعة المقالات هذه، يُبدي المشاركون في ورشة العمل آراءهم حول مجموعة من المسائل المؤسّساتية والحوكمية التي تواجهها المنطقة العربية ويقترحون التوصيات حول طريقة معالجتها مع استمرار الجائحة. وتتطرّق هذه المقالات إلى مسائل الثقة، والفساد، والإصلاح والشمولية، وتقدّم آراء لافتة حول الوضع الراهن في المنطقة وحول الخطوات التي يمكن اتّخاذها لتحسين المؤسّسات والحوكمة في الأشهر المقبلة.

  • * *
    فيروس كورونا المستجدّ أكّد الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد
    عادل عبد اللطيف؛ وإيلين هسو*
    أحرزت الدول العربية تقدّماً لافتاً في مؤشرات الصحّة في العقود الأخيرة، وظهر ذلك في متوسّطات أطول للعمر المتوقّع وتغطية أوسع لتلقيح الأطفال ومعدلات أدنى لوفيات الأمهات والرضّع. لكنّ جائحة فيروس كورونا المستجدّ وضعت القدرات الصحّية للحكومات العربية قيد الاختبار الفعلي، فكشفت عن تصدّعات في جهوزيّتها وبيّنت غياب خطط الصحّة العامّة الوطنية للاستجابة للطوارئ من أجل التعامل مع الأوبئة أو الجوائح، حسب ما أظهره مؤشّر الأمن الصحّي العالمي. فما إن حطّ فيروس كورونا المستجدّ رحاله، لم تتمكن الحكومات العربية (مع بعض الاستثناءات، على غرار الدول الخليجية والأردن) من استخدام التنسيق المتين بين الوزارات ولا الاستعانة بمجتمع مدني ناشط للوصول إلى استجابة تطال الحكومة بأسرها والمجتمع بأسره.
    كما واجهت الدول العربية صعوبة أيضاً في تقييم الأثر الاجتماعي الاقتصادي لأزمة فيروس كورونا المستجدّ ولمعالجته، ما طرح الشكوك حول قدرتها على استيعاب الصدمات، بيئية كانت أم عالمية أم مجتمعية. وأفضت هذه الركاكة المؤسّساتية، التي يمكن عزوها إلى الاستثمار غير الملائم في الخدمات الاجتماعية الأساسية، إلى إفراز قدرات ضعيفة على تقديم الوظائف الجوهرية وقابلية للانهيار عندما تحلّ الصدمات والأزمات وتعافٍ بطيء وتدهور في العلاقات بين الدولة والمجتمع. وتشكّل الهيكليات الحكومية عقبة أخرى لأنها شديدة المركزية ورديئة الرقمنة. ويمكن تحسين عملية تقديم الخدمات عبر نقل صلاحيات صناعة القرارات واعتماد التكنولوجيات الرقمية، بما في ذلك في نظام الرعاية الصحّية حيث تؤدّي السجلات الطبّية الرقمية دوراً حاسماً في المراقبة الوبائية.
    تشكّل شبكات الأمان الاجتماعي في المنطقة مثالاً على الأهمّية التي تحظى بها نوعية الاستثمارات الحكومية في الخدمات الاجتماعية. فعلاوة على أنّ الحماية الاجتماعية مجزّأة، فإنها غالباً ما تعجز عن تغطية الشرائح الأكثر هشاشة، على غرار العاملين في القطاع غير الرسمي والشباب والنساء العاطلين عن العمل واللاجئين، فتتركهم في وضع حرج خلال أزمة مثل جائحة فيروس كورونا المستجدّ. ومع أنّه من المبكر جداً تحديد الكلفة الاجتماعية لعمليات الإغلاق الكامل المطبّقة في أرجاء المنطقة ابتداء من أواسط آذار (مارس)، فقد أصبحت لدينا بعض المؤشّرات على أنّ الأسر من الطبقتَين الفقيرة والمتوسطة تخسر سبل عيشها وتتراجع إلى ما دون خطوط الفقر في الكثير من الدول العربية. وفي غضون ذلك، فإن الـ10 في المائة العليا من البالغين، الذين يُقدّر أنّهم يملكون 76 في المائة من الثروة، يستمرون في العيش من دون تأثّر يُذكر، ما يشير إلى أنّ أوجه عدم المساواة في ازدياد بشكل ستصبح الرجعة فيه غير ممكنة في المستقبل المنظور.
    ومع انقطاع خطوط الحياة المعتادة كافة، من التحويلات من الخارج إلى الاستثمار الأجنبي المباشر والمساعدات الإنمائيّة الرسمية، تواجه الدول العربية خيارات تمويل ضئيلة وعليها اللجوء إلى المصادر المحلّية، التي كانت تاريخياً شحيحة بسبب القدرات الضعيفة على فرض الضرائب. لكن من السهل على المرء أن يتصوّر كيف أنّ تحسين الجباية الضريبية والعمل على إصلاح ضريبي أشمل في هذه المرحلة لن يؤدّيا إلّا إلى المزيد من هروب الرساميل وتأجيج مقاومة شعبية شرسة. ويتوقّع تقرير آفاق الاقتصاد الإقليمي من صندوق النقد الدولي انكماشاً بنسبة 5.7 في المائة في العام 2020، وهو الأكبر منذ خمسين عاماً، ما يشير إلى أنّ المنطقة، المحطّمة أصلاً بفعل الصراعات والأزمات قد دخلت في نفق أطول وأكثر سواداً والتي لا يمكنها الخروج منه إلّا بإحداث تغيير جذريّ في الحوكمة، ما يؤدّي إلى وضع عقد اجتماعي جديد. وبهذه الطريقة، تشكّل جائحة فيروس كورونا المستجدّ دعوة أخرى للتغيير في العالم العربي وفرصةً لاعتماد سياسات اجتماعية أكثر شموليّة ولإصلاح المؤسّسات على أساس المساءلة ولبناء اقتصادات أكثر استدامة.
  • * *
    هل فيروس كورونا المستجدّ نعمة للمنطقة العربية أم نقمة للإصلاح؟
    روبرت بيشيل*
    تشير البيانات الطبّية الخاصّة بالمنطقة العربية إلى نوع من التضارب. فمع أنّ سياسات الاستجابة لفيروس كورونا المستجدّ لم تختلف كثيراً بين دولة وأخرى، فإن الاختلاف في النتائج في هذه المرحلة كان كبيراً. وفيما اختلفت السرعةُ التي استجابت بها الدول العربية للوضع ونوعيةُ التنفيذ بشكل طفيف، بادرت هذه الدول كلّها إلى إغلاق الحدود واعتماد إجراءات التباعد الاجتماعي والحجر الصحّي والبقاء في المنازل وإغلاق الخدمات غير الضرورية وتأمين الإمدادات اللازمة. بيد أنّ عدد الوفيات للفرد الواحد بسبب فيروس كورونا المستجدّ، وهو مؤشّر جيّد لتفشّي الفيروس ولنوعية نظام الرعاية الصحّية على حدّ سواء، اختلف بشكل لافت.
    فقد واجهت دول مجلس التعاون الخليجي صعوبة في احتتواء الفيروس، علماً أنّه كان من المتوقّع أن تبلي هذه الدول حسناً نسبياً تبعاً لأيّ قياس من مقاييس فعالية الحكومة الإجمالية، أو الإنفاق على الرعاية الصحّية، أو الجهوزية للتعامل مع الجائحة. وحتّى لحظة كتابة هذا التقرير، سجّلت الكويت معدّل وفاة يبلغ 113.8 شخص في المليون، تلتها عمان بمعدّل 104.4 والسعودية بمعدّل 92.9، ثمّ قطر بمعدّل 65.3 فالإمارات العربية المتحدة بمعدّل 36.1. وفي المقابل، كانت الدول ذات الدخل المتوسّط هي التي سجّلت أفضل المعدّلات، وبالتحديد الأردن وتونس، مع معدل أعلى بقليل من وفاة واحد في المليون للأولى ونحو 4.4 للثانية، وهذان رقمان يقارعان الأرقام المسجّلة في أستراليا وكوريا ونيوزيلندا.
    من غير الواضح سبب الاختلاف الكبير في هذه المسارات. فقد عمد الأردن بسرعة إلى تطبيق إغلاق تام، وكانت قدرته على فرص التباعد الاجتماعي وزيادة أعداد الفحوص لأعداد كبيرة من المواطنين المعرَّضين لافتة للغاية. بيد أنّ دولاً أخرى، على غرار المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، لجأت بدورها إلى استجابات قوية، لكنّها تشهد معدّلات وفاة أعلى بأضعاف عدة. ومن الممكن أن يكون السبب أنّ مجلس التعاون الخليجي مندمج أكثر بكثير في الاقتصاد العالمي، بما في ذلك بؤر أولية لفيروس كورونا المستجدّ مثل الصين وأوروبا وإيران، وأنّ ذلك سمح للفيروس بالتفشي من دون كشفه. ففي العام 2019 مثلاً، كان مطار دبي المطار رابع أكثر المطارات ازدحاماً في العالم، وسجّل حركة مسافرين تفوق مطار الملكة علياء الدولي في عمان بعشرة أضعاف. وقد يكون السبب أيضاً أنّ في الكثير من دول مجلس التعاون الخليجي قوى عاملة أجنبية ضخمة تعيش في ظروف مكتظّة يصعب فيها تطبيق التباعد الاجتماعي، أو أنها قد تكون مسألة نقص في الإفادة عن حالات الإصابة في دول عدّة. أما الفرضية الأكثر إقلاقاً فهي أنّ هذه الدول ما تزال في بدايات الجائحة، ولم تشهد دول مثل مصر والمغرب ولبنان زيادات كبير في الإصابات والوفيات بعد.
    أدّت الجائحة إلى تحسينات في نوعية التنسيق داخل الحكومات، وهذه مشكلة مزمنة في المنطقة العربية حيث يشكّل انعزال الوزارات عن بعضها بعضا وتدفق المعلومات العمودي المعيارَ الساري. وقد طوّرت دول عدّة أيضاً حلولاً تقنية إبداعية في مجالات مثل تعقب مخالطي المرضى. ويمكن أن تسرّع الجائحة الجهود لنقل المزيد من الخدمات الحكومية إلى الإنترنت. وقد تشكّل الجائحة فرصة تعلّم ثمينة ودافعاً مفيداً للإنفاق والخدمات الصحّية المحسّنة في المنطقة العربية، ولا سيما في المناطق الداخلية الريفية. وقد تمنح حتّى الدول العربية الحافز والإرادة السياسية اللازمَين لاعتماد إصلاحات طال انتظارها في الإدارة والسياسات تستهدف المجتمعات الضعيفة وتحميها بشكل أفضل مع الحدّ من حضور القطاع العام في أسواق العمل. وبالاستشهاد بمكيافيلي، سيكون من المؤسف لصانعي السياسات العرب عدم الاستفادة من أزمة جيدة.
اضافة اعلان

*عادل عبد اللطيف، نائب مدير المكتب الإقليمي للدول العربية في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي؛ وإيلين هسو، باحثة في المكتب الإقليمي للدول العربية في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
*روبرت بيشيل، زميل أول غير مقيم في مركز بروكنغز الدوحة.