الحياة الثانية للاستعمار الألماني في شرق إفريقيا

"عسكري" (جنود أفارقة تحت قيادة ألمانية)، 1896، في لوحة ثيميستوكليس فون إيكنبريتشر – (المصدر)
"عسكري" (جنود أفارقة تحت قيادة ألمانية)، 1896، في لوحة ثيميستوكليس فون إيكنبريتشر – (المصدر)
توم مينغر* – (أفريقيا بلد) 27/1/2022 ترجمة: علاء الدين أبو زينة تدعونا جائزة نوبل التي نالها الروائي عبد الرزاق قرنح إلى التأمل في الماضي الاستعماري لألمانيا بين فترة “التدافع من أجل إفريقيا” والحرب العالمية الأولى، في ما يُعرف اليوم بتنزانيا، وبوروندي، ورواندا… عندما وصلت الحرب العالمية الأولى إلى شواطئ “شرق إفريقيا”، حارب الأوروبيون لأول مرة الأوروبيين الآخرين في المنطقة. وعلى الرغم من ذلك، كانت الجيوش التي تواجهت في هذا المسرح تتكون في أغلبها من الأفارقة والهنود، الذين شكلوا صفوف القوات الاستعمارية لكلا الجانبين. وعلى الجانب الألماني، اتبع القائد بول فون ليتو فوربيك، الذي رأى نفسه يحارب بقوات أقل عدداً من القوات البريطانية والبلجيكية والبرتغالية، نهج التراجع المتدرج بطريقة حرب العصابات. وقد أكسبته هذه الحملة شهرة في ألمانيا لعقود بعد ذلك. لكن تمجيد هذا القائد في فترة ما بعد الحرب أخفى الواقع الوحشي لذلك التراجع، حيث صادر جنوده بلا رحمة مخازن طعام السكان المحليين لإطعام أنفسهم، ثم شرعوا في حرق كل شيء في أعقابهم من أجل إعاقة أعدائهم. * * عندما حصل عبد الرزاق قرنح على جائزة نوبل في الأدب في تشرين الأول (أكتوبر) 2021، كرمت لجنة التحكيم “اختراقه غير المتهاون والعاطفي لآثار الاستعمار”. ومع كون “شرق إفريقيا” جزءاً مركزياً في الكثير من أعمال قرنح، كان الاستعمار الألماني حاضراً منتظماً في رواياته، وبشكل أكثر تحديدًا “مستعمرة شرق إفريقيا الألمانية”، أكبر مستعمرة ألمانية على الإطلاق، والتي تضم تنزانيا الحديثة وبوروندي ورواندا. على الرغم من أنها تمت دراسة تاريخ هذه المنطقة بدقة، إلا أنه ما يزال يقع إلى حد كبير في ظل المناقشات العامة المعاصرة حول الإبادة الجماعية الألمانية التي ارتكبت في حق شعوب هيريرو وناما،(1) وكذلك الجدل الدائر حول جوانب الاستمرارية بين تلك الإبادة الجماعية والهولوكوست. تبرز مستعمرة “شرق إفريقيا الألمانية” بشكل خاص في اثنتين من روايات قرنح: روايته المبكرة، “الجنة” Paradise (1994)، وروايته “حيوات ثانية” Afterlives (2020). وتستدعي هاتان الروايتان العديد من الثيمات. الأولى، وربما على نحو غير مستغرب، هي العنف الاستعماري. وعلى الرغم من أن هذا العنف لم يكن دائمًا في مقدمة كتب قرنح، إلا أنه موجود دائمًا، حيث تعاني شخصياته من “المداتشي” الشريرين، أو الألمان، وجنودهم الأفارقة: “العسكري”.

“مشهديات” العنف

بدأ الحكم الاستعماري الألماني في “شرق إفريقيا” بالعنف، عندما شن هيرمان فون ويسمان حربًا على سكان المناطق الساحلية من العام 1889 إلى العام 1890، بعد أن قاوموا محاولة “شركة شرق إفريقيا الألمانية” إدارة المستعمرة كمشروع خاص. وتم سرد حادثة شنق البوشيري، أحد قادة الثورة، في العام 1889 بحيث تكون مشهدًا عظيمًا، حدثًا حاسمًا في “حيوات ثانية”. كما أوضحت الأبحاث الأخيرة، استخدم مرتكبو العنف الاستعماري الأوروبيون مثل هذه “المشهديات” من العنف الوحشي، حيث اعتقدوا أن هذه المشاهد سترسل رسالة إلى ما أطلق عليه المستعمرون البريطانيون اسم “العقل الأصلي” the native mind. يُظهر قرنح كيف أن السادة الاستعماريين لم يهتموا كثيرًا بما يسمى “العقل الأصلي”، الذي اعتبروه أحدياً وغير متغير. وفي حين أن العنف الألماني كثيرًا ما كان يصيب السكان الأصليين بالصدمة، إلا أنه ظل غير مفهوم في كثير من الأحيان: تروي “الجنة”، على سبيل المثال، كيف “شنق الألمان بعض الناس لأسباب لم يفهمها أحد”. في بعض الأحيان، لم تثر “مشهديات” العنف إعجاب السكان المحليين، حتى بينما يتفاخر “عسكري” في “حيوات ثانية” بـ”الأوغاد الغاضبين الذين لا يرحمون” التابعين للقوة الاستعمارية الألمانية المسماة “قوة الحماية” Schutztruppe التي يعد ضباطها الألمان “خبراء مستبدين متمرسين في الإرهاب”. بمجرد أن قام الألمان بإخضاع منطقة الساحل في العام 1890، حولوا انتباههم إلى انتزاع السيطرة على تجارة القوافل التي يهيمن عليها العرب، والتي كانت تراوح بين البحر والكونغو. ويشكل الاستيلاء عليها خلفية رواية “الجنة”. ويقول أحد مرشدي القوافل متحسراً: “لن تكون هناك المزيد من الرحلات الآن، الكلاب الأوروبية موجودة في كل مكان”.

عنف القرن العشرين

لكن هذه كانت بداية الغزو الألماني فحسب. وقد استمر الحكم الألماني في اختراق الأراضي الداخلية حتى مطلع القرن العشرين. واتسمت الحروب التي تلت ذلك بالعنف المدمر بشكل خاص. كان الاستهداف العشوائي للحقول والمحاصيل والقرى جزءًا من الذخيرة القياسية للحروب الاستعمارية (وليس فقط تلك الخاصة بالألمان)، بهدف تجويع الأعداء المراوغين وإجبارهم على الخضوع. ويشرح قرنح، بالإشارة إلى الأعمال ألمانية من خلال شخصية “عسكري”: “كانت هذه هي الطريقة التي تعمل بها قوة الحماية. عند أدنى علامة على المقاومة، تم سحق المحليين وذبح مواشيهم وحرق قراهم”. كانت أكثر الفصول تدميراً في هذا النمط من الحرب هي “حرب ماجي ماجي” (1905-1907)، عندما ثارت العديد من الأعراق في وقت واحد ضد العمل القسري والضرائب العقابية للحكم الاستعماري. وتشكل هذه الحرب المناخ العام لرواية “حيوات ثانية”، على الرغم من بقاء العنف بعيدًا عن ساحل شرق إفريقيا وفي خلفية القصة. مع ذلك، يظل قرنح صريحاً وصاحب موقف لا لبس فيه بشأن بشاعة الحرب: “لقد قتل الألمان كثيرين لدرجة أن البلاد أصبحت مليئة بالجماجم والعظام، والأرض مليئة بالدماء”. وتقدر الأبحاث بأن الحرب كلفت ما يصل إلى حياة 300.000 إنسان، ويرجع ذلك أساسًا إلى المجاعة التي نتجت عن تكتيكات “الأرض المحروقة” التي اتبعها المستعمِرون.

الحرب العالمية الأولى

عندما وصلت الحرب العالمية الأولى إلى شواطئ “شرق إفريقيا”، حارب الأوروبيون لأول مرة الأوروبيين الآخرين في المنطقة. وعلى الرغم من ذلك، كما يؤكد قرنح، كانت الجيوش التي تواجهت في هذا المسرح تتكون في أغلبها من الأفارقة والهنود، الذين شكلوا صفوف القوات الاستعمارية لكلا الجانبين. على الجانب الألماني، اتبع القائد بول فون ليتو فوربيك، الذي رأى نفسه وهو يحارب بقوات أقل عدداً من القوات البريطانية والبلجيكية والبرتغالية، نهج التراجع المتدرج بطريقة حرب العصابات، والذي حافظ عليه حتى نهاية الحرب. وقد أكسبته هذه الحملة شهرة في ألمانيا لعقود بعد ذلك. ومع ذلك، أخفى تمجيد هذا القائد في فترة ما بعد الحرب الواقع الوحشي لذلك التراجع، حيث صادر جنود ليتو فوربيك بلا رحمة مخازن السكان المحليين لإطعام أنفسهم، ثم شرعوا في حرق كل شيء في أعقابهم من أجل إعاقة أعدائهم. وكانت النتيجة -مرة أخرى- هي الجوع اليائس للسكان. وعلاوة على ذلك، تم تجنيد عشرات الآلاف من المدنيين الأفارقة كعتالين وماتوا من شدة الإرهاق. وواجه السكان المحليون الذين قاوموا أعمالاً انتقامية وحشية، كما تقول رواية “حيوات ثانية”، التي تحكي كيف قام عريف ألماني بإعدام شيخ القرية برصاصة في الرأس. تشكل الصدمة الناجمة عن الانسحاب الألماني المروع ثيمة متكررة في الكتاب. وتشير الأبحاث الحالية إلى أن مئات الآلاف من الأرواح قد فقدت في “شرق إفريقيا” خلال الحرب العالمية الأولى، تبعتها مئات آلاف أخرى بعد أن هبطت الإنفلونزا الإسبانية على سكان هزيلين ومدمرين مسبقاً. لن تكون قراءة هذه الروايات على أنها مجرد معالجة أدبية للعنف الاستعماري عادلة في حقها. إنها توفر أيضاً رؤية غنية في حياة الشعوب المستعمَرة. ويولي قرنح، الذي ولد تحت الحكم الاستعماري البريطاني لجزيرة زنجبار، اهتمامًا خاصًا بحياة سكان المناطق الساحلية وتأثيراتها الأفريقية، والهندية، والعربية. في هذه البيئة العالمية، كان الإسلام، كدين ونظرة عالمية، والسواحيلية، كلغة مشتركة، هما العنصران الرابطان في أغلب الأحيان. وكان هذا الطابع الدنيوي هو الذي جلب هذه المنطقة إلى انتباه التاريخ العالمي في الآونة الأخيرة. وهو يُظهر أن العولمة ليست مدفوعة حصريًا من الجهات الفاعلة الغربية. فقد سادت هنا شبكة كثيفة من الاتصالات عبر المحيط الهندي وساحل شرق إفريقيا والقرن الأفريقي ومدغشقر وجزر القمر وشبه الجزيرة العربية والساحل الغربي للهند قبل قرون من الاستعمار الأوروبي. وكان يمكن للتجار في زنجبار تنشيط شبكات للحصول على قروض في الهند، وكان العلماء المسلمون يتنقلون بحرية بين المراكز المختلفة لهذا العالم. بحساسية كبيرة، وأحيانًا بأجواء قص خيالية، يعرض القرنة شخوصه وهم يعيشون حياتهم على الرغم من الاستعمار. إنهم يكبرون، ويكتسبون الخبرة، ويتمتعون بالثروة أو يعانون من الفقر، ويقعون في الحب. وفي بعض الأحيان يتم إقصاء أسياد المستعمرات ووضعهم في الخلفية. وتروي هذه الروايات قصصًا عن الصمود، والتي لم يكن فيها المستعمَرون مجرد ضحايا. قرب نهاية رواية “حيوات ثانية”، يطرح قرنح مسألة الاستمرارية بين الاستعمار الألماني والنازية. ويستكشف ذلك من خلال تعقب حياة إحدى الشخصيات، إلياس، وهو “عسكري” يظل مكان وجوده بعد العام 1918 غامضًا في الكتاب حتى انتقاله إلى ألمانيا في عشرينيات القرن الماضي. وهناك، وجد إلياس عملاً كمغنٍّ، يؤدي في مناسبات دعائية ثيمات استعادية-استعمارية. وسرعان ما يتفوق العنف النازي على العنف الألماني في إفريقيا. وبعد علاقة غرامية تربطه مع امرأة بيضاء، يتم اعتقال إلياس في وإيداعه في معسكر اعتقال في العام 1938، ويظل هناك إلى أن يُتوفى في العام 1942. وهناك قصص حياة مماثلة موثقة لـ”عسكري” سابقين حقيقيين في ألمانيا. وقد أمضى العديد من الألمان المنحدرين من أصل أفريقي فترة الحرب في معسكرات الاعتقال. وبعد الحرب، بقي البعض منهم في ألمانيا، وشكلوا مجتمعًا دائمًا من السود. *Tom Menger: مؤرخ للعنف الاستعماري، والحرب، والتاريخ عبر الإمبريالية بين الفترات من 1880 إلى 1914. *هذه المقالة منشورة من موقع Africa is a Country، تحت عنوان: The ‘Afterlives’ of German Colonialism in East Africa، وهي مقتطفة من مقالة أطول بالألمانية بعنوان “العنف بلا سبب” Gewalt ohne Grund، منشورة في Frankfurter Allgemeine Zeitung. هامش المترجم: (1) كانت الإبادة الجماعية لشعوب هيريرو وناما أول عملية إبادة جماعية في القرن العشرين، والتي نفذتها القيصرية الألمانية ضد شعوب أوفاهيرو، وناما، وبوشمن في جنوب غرب إفريقيا الألمانية. وحدثت حملة الإبادة هذه بين العامين 1904 و1908. وكان شعبا هيريرو بقيادة صامويل ماهاريرو، وناما بقيادة الكابتن هندريك فيتبوي، قد بدآ ثورة ضد الحكم الاستعماري الألماني في كانون الثاني (يناير) من العام 1904.

اقرأ المزيد في ترجمات

اضافة اعلان