الحياة في "عنق الزجاجة"!

إبراهيم جابر إبراهيم هناك الآن شقق تحت الماء، وهناك شقق دوّارة بحيث تختلف إطلالة نافذتك كل صباح، وهناك أيضاً الشقق الذكية، المؤتمتة بالكامل! وقد اختبر بعض الأثرياء السكن في شقق تحت سطح البحر، لكن لا أحد استطاع قبلنا العيش في “زجاجة”! الحياة في زجاجة تجربة مدهشة، تجربة فريدة، تجربة لم يجرّبها غيرنا. حتى سكان العالم الأول، وحتى سكان فنلندا المصنفة كأسعد دولة في العالم، أو سكان سويسرا، أو السويد، ومع كل هذا الرفاه الذي يرتعون فيه، فهم لم يبلغوا يوماً هذا الترف: أقصد العيش في زجاجة! ورغم ذلك فحتى سكان الزجاجة “طبقات”، وليس كل من يعيش بداخلها يمكنه أن يعيش متعة الجلوس عصراً مع الجيران، أو مع صاحب الدكان حول إبريق شاي في منطقة “عنق الزجاجة” مثلاً! هذه المنطقة لا يحظى بها سوى أعداد قليلة من الناس، يزيدون أو ينقصون حسب همّة المطورين العقاريين في “توسيع” عنق الزجاجة أو.. توسيع القاع بحيث يتسع للجميع! لكن المؤسف أن هؤلاء السكان، بعد أن رتبوا أمورهم، وتكيفوا مع العيش في “العنق الواسع”، وسجلوا أبناءهم في المدارس في مناطق قريبة من العنق، وتعرفوا على أصدقاء يخرجون معهم مساء للجلوس على “الكتف” قليلاً.. بعد كل هذا يصلهم إشعار بأنهم سيغادرون “عنق الزجاجة” العام المقبل! ولم يخبرهم أحد “إلى أين”؟ رغم أن حياة الناس في “الزجاجة” ليست سيئة، وليست سبباً للتذمر. فـ”الرضا” هو الوجبة الاحتياطية المتوفرة، دائماً، حين لا يجد الفقراء عشاءهم، وحين تكون كل الكؤوس “ملأى” بالنصف الفارغ! وجبة يتناولونها بصبر من اعتاد طعمها، ويحمدون الله كثيراً. “الرضا” هو رأسمالهم الذي لا ينفد. أما النصف الملآن من الكأس فمترع بـ”الهراء” و”الإنشاء” ومقالات يصوغها كُتّاب مبتدئون، يحصلون على “رضا” من نوع آخر. هؤلاء الذين يتناقلون بسذاجة منقطعة النظير ما قيل في إحدى الجلسات من أن القناعة “كنز”! الغريب أن هذا “الكنز” متاحٌ حتى للحمقى، ولا يلزمك للحصول عليه سوى أن تلوذ بزاوية معتمة وتبقى تمضغ عبارات الرضا المغشوش.. حتى يتكوّم في حضنك كالحيوان الأليف! وهو، إضافة الى ذلك، ثروة سهلة الحمل، فضلاً عن أنها معفاة من الضرائب، وإذا أردت التبرع بجزء منها فكل ما عليك هو أن تقرأ وعظك على رأس المحتاج، وأن تستفيد من حنكتك ودهائك لتقنعه بأنه يرتع في النعيم، وأن المال مصدر همٍّ لأصحابه، وأن عليه الحمد والشكر كثيراً، فهو مثلاً يستطيع أكل الفلافل متى شاء، بينما “فلان” الملياردير المعروف لا يستطيع أكلها بسبب القولون، وهو نفسه الذي اختبر كل متع الحياة لكنه لم يحظ ولو مرة بالعيش في زجاجة!! .. والغريب أن الفقراء وحدهم من يستطيعون رؤية “النصف الملآن” حتى لو حطمت كل الكؤوس التي في بيوتهم فوق رؤوسهم! فالرضا قرار، والقناعة كنز. المقال السابق للكاتب  للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنااضافة اعلان