الخامس من حزيران: الكارثة التي حكمت تاريخنا

لا أعتقد أن حدثا في تاريخ العرب في القرن العشرين، ترك أثرا مفصليا عميقا وشاملا بقدر ما تركت هزيمة الخامس من حزيران (يونيو) 1967. لم تكن كل الآثار عيانية ومباشرة؛ فالأثر الخفي المديد للنكسة كان انتكاسة سياسية اجتماعية ثقافية، سارت بالعرب حتى أوصلتهم إلى "داعش". وقد لا يبدو الترابط قائما ظاهريا، لكن الحقيقة أن العرب، وأقصد الشعوب قبل الأنظمة، ضلت الطريق استراتيجيا حتى انتهينا إلى الحال الراهنة التي لم تدر في كوابيس المراقب الأكثر تشاؤما.اضافة اعلان
نخب مختلفة خرجت باستخلاصات مختلفة من الهزيمة. لكن الوعي العام لا يعمل باستخلاصات واعية؛ فالأثر الحقيقي يتسلل كالماء والهواء إلى العقل والوجدان. وما استخلصته أغلب النخب الظاهرة على سطح الحياة السياسية كان منحازا لانتماءاتها القائمة، ولم يكن أي منها صحيحا. اليسار العربي استنتج على الفور أن قيادة البرجوازية الصغيرة القومية هُزمت في الحرب وبرنامجها فشل، ويجب أن تُخلي القيادة لليسار الماركسي الذي كان يقود وقتها عددا وافرا من الأنظمة والحركات التحررية في العالم الثالث. والتيار القومي عموما لجأ إلى المكابرة، واعتبر الحرب مؤامرة على قيادة جمال عبدالناصر، وقد خسرنا معركة وليس الحرب، وتغذت على شعارات "لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف". أما الاستخلاص الأفعل أثرا في المدى المنظور، فقد قدمته الوطنية الفلسطينية، وهو الحرب الشعبية الطويلة الأمد في ظلّ هزيمة الجيوش العربية النظامية؛ إذ ثبت أن هذا الأسلوب هو السبيل لتفادي التفوق العسكري والتقني الإسرائيلي، كما أثبتت ذلك تجارب التحرر في كوريا وكوبا وفيتنام... إلخ.
وبالفعل، حظي العمل الفدائي بموجة تعاطف واسعة. لكن هذا لم يكن أكثر من جرعات التسكين المؤقتة، لمداراة الفاجعة؛ استحسنتها الأنظمة نفسها لبعض الوقت، لكن الظاهرة سرعان من انتهت إلى جزء من الواقع العربي إياه. أما في العمق، فقد كانت المجتمعات في وجدانها تترك المشروع الذي قام الاستقلال العربي عليه؛ ابتدأ بمشروع الثورة العربية الكبرى، فتلقي أفكار التنوير والدولة المدنية، وتهرب إلى الملجأ الأخير وهو الدين. فاللطمة التي تلقتها من العالم المادي ردّها إلى العالم الثيولوجي في موجة جديدة من التدين المسيس؛ أي بمنظور للدين كمشروع سياسي اجتماعي، وليس كشأن شخصي وخاص. وهو ما تلقفته القوى السياسية الدينية، في مقدمتها السلفية وما وراءها من قوة تمويل لا تنضب، والإخوان المسلمون كتنظيم سياسي. ومع أن تفجير النموذج والمثال لقوة الإسلام الثورية جاءت من إيران، أي من معقل الشيعة، فقد استفادت منه وبنت عليه القوى السُنّية طوال عقود من دون أن تقول كلمة ذات محتوى طائفي سلبي تجاه تلك الفئة التي أنعشت الإسلام السياسي، وترجمت البديل والرد الحقيقي على الهزيمة القومية المفجعة العام 1967.
ما وسم صراع العالم العربي للعقود التالية بعد الثورة الإيرانية، هو الصراع بين الأنظمة المحافظة القديمة التي كانت تجاهد لملاقاة المد الإسلامي بالاحتواء والتماهي مع الظاهرة، ومنافسة المعارضة الحزبية الإسلامية على الدين، لكن بنتيجة وحيدة هي الفشل التنموي وديمومة أزمة الحكم حتى وصلنا إلى "الربيع العربي".
قد يكون في هذا التحليل  قصور الاختزال والإيجاز عن الإحاطة بكل جوانب الموضوع، والعوامل الفرعية العديدة والمتبدلة، والأحداث الكثيرة وردود الأفعال عليها، التي أعطت تاريخ العرب في الثلث الأخير من القرن العشرين وحتى الآن. إنما في اجتهادي أن ما قلته آنفا يختصر الحقيقة، والتي تقع هزيمة حزيران في قلبها؛ كحدث حاسم أو الأكثر حسما في رسم مصير العرب للعقود التالية. ولكل مجتهد نصيب.