الخبز والأسعار: وصفات إقليمية جديدة

استقبل عدد من دول الشرق الاوسط  وشمال افريقيا الايام الاولى من العام الجديد بمظاهر احتجاجات واسعة عنوانها الظروف المعيشية والاوضاع الاقتصادية من ايران واقليم كردستان الى السودان وصولا الى تونس والجزائر؛ فيما تُهشم الاوضاع الاقتصادية الصعبة والتحولات القاسية البنى الاجتماعية العميقة في العديد من دول المنطقة الاخرى. ومن المتوقع ان تتشكل في هذا الوقت نسخة جديدة  من حركات التحول الكبرى التي ربما تتجاوز ما حدث في " الربيع العربي"  وربما ستكون بمثابة محاكمة قاسية لفشل التنمية ومشاريع التحديث الاقتصادي والاجتماعي  للدولة الوطنية في المنطقة. اضافة اعلان
من الواضح ان التحولات الجديدة والقادمة لا تستهدف نموذجا اقتصاديا او سياسيا بعينه، بل تنال الجميع حتى الدول النفطية التي يعتقد انها شيدت دول رفاه اجتماعي. ثمة نواقيس خطر تلوح في الافق مع بداية تفكك البنى الريعية والرعوية التي حكمت هذه النماذج على مدى تاريخ الدولة الوطنية الحديثة؛ في السودان تواصلت الاحتجاجات الشعبية ووصلت ذروتها مع تردي الاوضاع المعيشية وارتفاع اسعار السلع الاساسية الى درجة غير مسبوقة بعد ان تخلت الحكومة عن سياسات الدعم وتركت استيراد القمح للقطاع الخاص، فيما عمّت الاحتجاجات معظم ارجاء البلاد. وفي إيران بدأت الاحتجاجات الدموية في مدينة مشهد لتمتد الى مناطق اخرى وسقطت 21 ضحية نتيجة انتشار الغلاء والبطالة وسوء ادارة الموارد وانتشار مؤسسات القروض المالية غير القانونية التي أدت الى تورط عشرات آلاف بقروض وآخرين خسروا ودائعهم الى جانب فشل مشاريع كبرى مثل مشروع بناء مدينة جديدة بالقرب من مشهد.
وفي تونس امتدت الاحتجاجات الى عشرات المدن والبلدات مع بداية العام نتيجة زيادة الاسعار وزيادة الضرائب، وبعد إعلان الحكومة عن موازنة تقشف للعام الجديد. وهي أول احتجاجات بهذا الحجم في تونس بعد ثورة “الحرية والكرامة”، التي أسقطت نظام زين العابدين بن علي، وأشعلت الثورات في المنطقة العربية، وقبل ذلك شهد اقليم كردستان احتجاجات واسعة نتيجة غلاء المعيشة وعدم دفع الرواتب وسقط نتيجة هذه الاحتجاجات خمس ضحايا.
أبرز المؤشرات والدلالات التي تحملها هذه التحولات يبدو في تراجع مكانة الاصلاح السياسي باعتباره مطلبا شعبيا ونخبويا لصالح المطالب الاساسية المرتبطة بالاقتصاد والحاجات اليومية ثم فشل السياسات العامة في إحداث طفرة حقيقية في نوعية حياة المواطنين على الرغم من توفر الثراء في الموارد الاستخراجية لدى بعض الدول ما يشير بوضوح ان هذا الاقليم فيه مناطق اكثر ثراء واخرى اكثر فقرا لكنهما في المجمل اقل نموا.
ولكن لماذا تزداد مظاهر الاحتجاجات العنيفة منذ العقد الثاني في هذا القرن وباتت تأخذ في كل موجة مظاهر جديدة، ان مؤشر العنف في المنطقة سواء في احتجاجات الخبز والظروف المعيشية الصعبة او على مقياس الارهاب والعنف السياسي والديني او الاحتلالات والتدخلات الخارجية قد يفسر جانبا من الأسباب وجانبا آخر من النتائج.
الى جانب الفساد وفشل التعليم وتنمية الموارد البشرية وغياب الحكم الصالح واضطهاد وتعطيل النساء، ساهم ارتفاع معدلات العنف الذي اتخذ اشكالا متعددة من الحروب المحلية والاقتتال والحروب الخارجية والاحتلالات الاجنبية وصولا الى الارهاب والاقتتال الطائفي والمذهبي وحروب الارهاب على مدى ثلاثة عقود في رفع فاتورة الكلف التي تدفها مجتمعات المنطقة وتحديدا العربية دون استثناء ايران وغيرها من بعض القوى الاقليمية التي انغمست في هذا العنف، لقد استهلك العنف موارد طائلة وضرب البنى التحتية الهشة وحوّل المنطقة الى اكبر ترسانة للاسلحة والعسكرة على حساب التنمية والتحديث فيما وصل تراكم الخسائر الى درجة عدم القدرة على التكيف. هنا، تجد المجتمعات والأجيال الجديدة نفسها مكشوفة امام مصير مجهول.