الخرف المناعي

1085788
1085788
د. هاشم غرايبة ظل العلماء الى فترة قريبة يجهلون وظيفة الغدة الزعترية في الإنسان (Thymus) فاعتقدوا بداية أنها مهمة لتعلم اللغة عند الطفل كونها ملاصقة لأعلى القصبة الهوائية، وكان ذلك بسبب أنها تكون كبيرة عند الولادة، ثم تبدأ بالتقلص الى أن تضمحل قبل عمر العشر سنوات، لكنهم لم يكتشفوا دورها الأهم إلا قبل فترة قريبة. لقد وجدوا أنها قريبة الشبة بكلية عسكرية تدريبية، حيث تمر فيها خلايا الدفاع الأساسية ( الخلايا التائية T- Cells) المتكونة حديثا، بما يشبه الدورة التأهيلية، فتتعلم كيفية التمييز بين الخلايا الغريبة وخلايا الجسم الطبيعية، وتمر بفترة تثقيف مكثفة في نهايتها يتم اختبار الناجحة منها فيسمح لها بالمرور لأداء مهامها، وأما التي تفشل في امتحان الكفاءة، فلا تستطيع التمييز بين العدو والصديق، فيجري التخلص منها، لأن ضررها على الجسم سيكون أكبر من نفعها. لذلك فهذه الغدة بعد أن تؤدي دورها وتدرب جميع الخلايا الأم المولد لخلايا الدم البيضاء المتخصصة بانتاج الخلايا التائية، وتضمن ان أجيال الحرس الأشداء القادمة ستولد مثقفة واعية مدركة تماما لواجباتها، تضمحل شيئا فشيئا إلى أن تتلاشى. هنالك الكثير مما يسمى بأمراض المناعة الذاتية أو الخرف المناعي التي تصيب البعض إما ولاديا أو بعد البلوغ، ومن أشهر هذه الأمراض التهاب المفاصل الروماتيزمي، والتصلب المتعدد، والحزاز المتبسط، ومرض بهجت، وأخرى كثيرة غيرها، من أمراض بعضها خطير مميت، وبعضها مزعج منغص للحياة فقط مثل الروماتيزم. وصعوبة معالجة هذه الحالات ناجم عن حالة الخرف التي تصيب الخلايا المناعية (التائية) فهي لا تستطيع التمييز بين العدو الدخيل والخلايا الطبيعية التي تؤدي وظائفها، ففي حالة روماتيزم المفاصل، تهاجم خلايا المفاصل اعتقادا منها أنها عدوة دخيلة، فتبادر الى شن معركة الإلتهاب المعتادة في ذلك الموقع (المفصل)، كما لو أن هنالك دخول ميكروبات ممرضة، فتظهر أعراض الإلتهاب الأربعة المعروفة : الإحتقان والألم والإحمرار وارتفاع الحرارة، وبما أن خلايا الجسم التي تعرضت لهذا الهجوم هي طبيعية ولها وظائف مهمة تقوم بها، تختل هذه الوظائف وتحدث ردات فعل منها، مثل زيادة في انتاج الخلايا، مما يحدث تشوهات وتعطل لوظائف المفصل الطبيعية. في النتيجة تكون هذه المعركة ضارة بالجسم فتوهنه وقد تفتك به، لذلك يصعب معالجته..والمعركة محتمة الخسارة، فالقاتل والمقتول من خلاياه. لو أسقطنا هذه الحالة على المجتمع المسلم الذي هو أشبه ما يكون بالجسد الواحد، سنجد أن هنالك فئة حريصة فعلا على الدين، وتخشى عليه من اختراق الأعداء له، لكنها مصابة بالخرف المناعي، فمن فرط خوفها على هذا الجسد ومن جهلها، لا تستطيع التمييز بين من يريد بهذا الدين والمجتمع خيرا ومن يريد به سوءا. فتبادر بمهاجمة المفكرين الذين فتح الله عليهم من علمه ورزقهم المعرفة وأعطاهم الحجة العقلية، ليدافعوا عن الأمة في معركة العصر المصيرية، وهي المحافظة على هذا المنهج الإلهي، والوقوف في وجه من يحاولون إقصاءه، بذريعة أنه ماضوي لا يصلح لهذا الزمان، والتي هي معركة الأمة عبر كل العصور. وبما أن هؤلاء (الحرس الأشداء) تنقصهم الثقافة العميقة والتدريب الجيد لمعرفة من يدافع عن الدين ممن يهاجمه، فمعرفتهم ساذجة مبنية على أن من يتبع خطى السلف ويتبنى فهمهم وتفسيراتهم فهم متبع للسنة الصحيحة، ومن جاء بفكر جديد هو مبني على فهم ما جاءوا به لكنه متعمق أكثر وأقرب الى أفهام أجيال الأزمنة الحديثة، فيعتبرونه مبتدعا مُحدثا في الدين ما ليس منه، إذ يظنون أن السلف الصالح قد ألموا بكل شيء ولم يتركوا من الدين شيئا لمستزيد. لكنهم لا يعلمون أنهم بهذا النهج الإستنساخي، يحكمون على الفقه بالتجمد، وهذا أهم هادم للدين، لأن الله لم ينزله على قريش فقط ، ولم يقصد به هداية من عاصروا التنزيل وحدهم، بل هو لكل العالمين في كل الأمكنة والأزمنة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا" [رواه أبو داود رقم/ 4291 ]. لو كان فهم السلف الصالح واجتهاداتهم كافية لزمنهم وللأزمان الباقية، لما أمرنا الله بدوام التفكر والتدبر في كتابه الكريم، ولاكتفينا بما فسروه وبما اجتهدوه. لذلك تتحول معركة هؤلاء المصلحين الواعين لمخاطر الأعداء الذين لا ينفكون يكيدون لهذا الدين، والمنهمكين في معركة الوعي داخلياً، والعقل خارجيا، الى الإنشغال برد السهام التي تنهال عليهم من الخلف، والتي يطلقها الفكر المتحجر الذي يأبى مغادرة المفاهيم التي كانت تعالج مشكلات عصر مضى بكل ما فيه من فهم صحيح أو خاطئ، خوفا منهم من تحريف أسس العقيدة ومبادئها، باعتقادهم أن أية محاولة فهم جديدة تخرج عن مفاهيم السلف هي تحريف وابتداع. الخرف المناعي لدى هؤلاء يحول انتباههم عن الأجسام الخارجية المعادية، فلا تعود معركتهم معها إذ أن انشغالهم فقط بأعضاء الجسم الصالحة، والتي تؤدي وظائف الجسد التي يحتاجها، فلا ينتج عن خرفهم هذا سوى إنهاك الجسم وإبقائه غير قادر على مجابهة الدخلاء المعتدين.اضافة اعلان