الخروج البريطاني في السياق

مايكل س بنس*

ميلانو ـ لا أعتقد أن الأجانب يساهمون بشكل مفيد عندما يصدرون آراءهم حول الكيفية التي ينبغي لمواطني بلد ما، أو وحدة أكبر مثل الاتحاد الأوروبي، أن يتخذوا القرار عندما يواجهون اختيارا سياسيا مهما. فقد تكون رؤانا التي تستند إلى الخبرة الدولية مفيدة في بعض الأحيان؛ ولكن لا ينبغي أن يحدث لدينا أي التباس بشأن عدم تماثل الأدوار.اضافة اعلان
ويصدق هذا بشكل خاص على الاستفتاء البريطاني بشأن البقاء في الاتحاد الأوروبي. فقبل أيام فقط من التصويت، لا يزال من المستحيل التكهن بالنتيجة، ويبدو أن عدد الناخبين المترددين كبير بما يكفي لترجيح أي من الجانبين. ولكن مع امتداد الانقسامات السياسية والاجتماعية إلى ما هو أبعد من أوروبا، فربما يكون الغرباء قادرون على إضافة بعض المنظور للقضية المطروحة حقا.
فأولا، لا ينبغي لنا أن نفاجأ عندما نعلم أن أنماط النمو كانت في أغلب بلدان العالم المتقدم تنطوي على مشاكل معقدة في ما يتصل بتوزيع الدخل والثروة وتكاليف وفوائد التغيير البنيوي القسري على مدار السنوات العشرين الماضية. ونحن نعلم أن العولمة وبعض جوانب التكنولوجيا الرقمية (وخاصة تلك المرتبطة بالتشغيل الآلي وإزالة الوساطة) ساهمت في استقطاب الوظائف والدخول، على النحو الذي أدى إلى فرض ضغوط متواصلة على الطبقة المتوسطة في كل بلد.
وثانيا، كانت الأزمة الجارية في أوروبا (وهي أشبه بحالة مزمنة) سببا في الإبقاء على النمو عند مستوى منخفض للغاية، والبطالة ــ وخاصة بين الشباب ــ عند مستويات مرتفعة إلى حد غير مقبول. وأوروبا ليست وحدها في هذا. فعلى الرغم من انخفاض معدل البطالة الرسمي في الولايات المتحدة، تسببت إخفاقات واسعة النطاق في ما يتصل بالشمولية في إحداث حالة ــ على اليسار واليمين ــ من التحرر من وهم أنماط النمو والسياسات التي يبدو أن فوائدها تعود بشكل غير متناسب على أولئك الذين هم على القمة.
ونظرا لحجم الصدمات الاقتصادية الأخيرة، فربما يصبح مواطنو الدول المتقدمة أقل شعورا بالتعاسة إذا توفر الدليل على وجود جهود منسقة ــ تستند إلى التقاسم الحقيقي للأعباء ــ لمعالجة هذه القضايا. وفي سياق أوروبا، فإن هذا يعني جهدا متعدد الجنسيات.
ولكن في الأغلب الأعم ــ ومرة أخرى في مختلف أنحاء العالم المتقدم ــ كانت الاستجابات الفعّالة مفتقدة. وكانت البنوك المركزية وحدها في مواجهة أهداف تتجاوز قدرة أدواتها ووسائلها، في حين كانت عناصر النخبة تنتظر الفرصة لإلقاء اللوم على صناع السياسات النقدية وتحميلهم المسؤولية عن الأداء الاقتصادي الضعيف.
في مواجهة استجابات السياسة غير النقدية التي كانت إما منقوصة أو غائبا تماما نسبة إلى حجم التحديات التي نواجهها، فإن الاستجابة الطبيعية في أي نظام ديمقراطي تتلخص في استبدال صانعي القرار وتجربة شيء مختلف. فالديمقراطية في نهاية المطاف نظام قائم على التجريب، فضلا عن التعبير عن إرادة المواطنين. وبطبيعة الحال، قد لا يكون "الجديد" أفضل بل وقد يكون أسوأ ــ وربما أسوأ كثيرا.
ثالثا، يواجه الاتحاد الأوروبي، في شكل أكثر حدة، المشكلة التي تواجه قسم كبير من العالم المتقدم: القوى العاتية التي تعمل خارج نطاق سيطرة المسؤولين المنتخبين والتي تشكل حياة المواطنين وتجعلهم يشعرون بالعجز. ولكن في حين يتعين على كل الدول أن تتعامل مع تحديات العولمة والتغير التكنولوجي، سنجد أن عناصر الحكم المهمة في الاتحاد الأوروبي بعيدة عن متناول المؤسسات الديمقراطية، على الأقل تلك التي يفهمها الناس ويتفاعلون معها.
هذا لا يعني أن الحكم المحلي خال من المشاكل. الأمر ليس كذلك. فالفساد والمصالح الخاصة وانعدام الكفاءة من المشاكل الشائعة. ولكن الحكم الديمقراطي يتسم بالمرونة من حيث المبدأ، والدفاعات المؤسسية والتدابير المضادة قائمة بالفعل.
يتسم الوضع في منطقة اليورو بعدم الاستقرار بشكل خاص، وذلك نظرا للعزلة المتزايدة بين المواطنين والنخبة التكنوقراطية المتباعدة؛ وغياب آليات التكيف الاقتصادي التقليدية (أسعار الصرف، والتضخم، والاستثمارات العامة، وما إلى ذلك)؛ والقيود المحكمة المفروضة على التحويلات المالية، والتي ترسل إشارات قوية حول حدود التماسك الحقيقية.
يمثل الخروج البريطاني جزءا من هذه الدراما الأكبر. فهو يرتبط في المقام الأول بالحكم وليس الاقتصاد. فمن منظور اقتصادي بحت، تكاد تكون المخاطر التي تواجه المملكة المتحدة وبقية الاتحاد الأوروبي على الجانب السلبي جميعها. ولكن إذا كان هذا هو كل ما يحيط بهذه القضية، فإن النتيجة كانت لتصبح محسومة لصالح البقاء.
أما القضية الحقيقية ــ الحكم الذاتي الفعّال والشامل ــ فهي ليست بالمشكلة التي يسهل التصدي لها في أي مكان، لأن القوى كتلك الكامنة في التكنولوجيات الجديدة المعطلة للنظم القديمة لا تحترم الحدود الوطنية. في جزء من الأمر، يصوت البريطانيون على ما إذا كان استمرار عضويتهم في الاتحاد الأوروبي يعزز من قدرتهم على الإبحار عبر هذه المياه المضطربة أو يضعف هذه القدرة. ولكن على المحك أيضا السؤال الأكثر جوهرية بشأن الهوية السياسية ــ تماما كما كانت الحال خلال الاستفتاء على استقلال اسكتلندا في عام 2014.
لا يزال بعض البريطانيين (وربما حتى غالبيتهم)، وكثيرون آخرون من مواطني الاتحاد الأوروبي، يريدون أن ينظر المنتمون إلى أجيال المستقبل إلى أنفسهم باعتبارهم أوروبيين (وإن كانوا من أصول بريطانية أو ألمانية أو أسبانية)، وأن يكونوا على استعداد لمحاولة إصلاح هياكل الحكم في أوروبا مرة أخرى. وهم محقون عندما يرون أن العالم قد يصبح مكانا أفضل كثيرا في ظل أوروبا الموحدة الديمقراطية باعتبارها قوة رئيسية تدعم الاستقرار والتغيير في آن.
هذا هو أملي، وإن كان أقرب إلى التمني. فبصرف النظر عن نتيجة الاستفتاء على خروج بريطانيا (أملي، كحال كثيرين من الغرباء، أن تصوت بريطانيا لصالح البقاء وأن تدعو إلى الإصلاح من الداخل)، لابد أن يكون التصويت البريطاني، جنبا إلى جنب مع اتجاهات سياسية قوية مماثلة تعتمد على الطرد المركزي في أماكن أخرى، سببا في تحفيز إعادة النظر في هياكل الحكم الأوروبي وترتيباته المؤسسية. ولابد أن يكون الهدف إعادة حِس السيطرة والمسؤولية إلى الناخبين.
وهي نتيجة طيبة في الأمد البعيد. وسوف يتطلب الأمر الزعامة الملهمة في مختلف أنحاء أوروبا ــ بما في ذلك الحكومة، وقطاع الأعمال، والعمل المنظم، والمجتمع المدني فضلا عن الالتزام المتجدد بالنزاهة والشمولية والمسؤولية والسخاء. وهي ليست بالمهمة السهلة ولكنها ليست مستحيلة.

*حائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وأستاذ الاقتصاد في كلية شتيرن لإدارة الأعمال في جامعة نيويورك.
خاص بـ"الغد" بالتعاون مع بروجيكت سنديكيت.