الخطأ التاريخي

نعى عرب كثر الزمن الذي عاشوا فيه وشهدوا كيف استطاعت إيران أن توقف العالم كله على رؤوس أصابعه، بانتظار الاتفاق النووي الإيراني الدولي؛ وكيف استطاعت هذه الدولة الشرق أوسطية، المثقلة بأزماتها وحصارها، التفوق وإجبار العالم على الدخول معها في مفاوضات، تعد واحدة من أعقد المفاوضات على مدى عقود طويلة، والخروج بصفقة لا يقوى على الوصول إليها إلا الأقوياء.اضافة اعلان
وما أغاظ كثيرا من النخب العربية واستفزها، هو كيف عمدت الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، إلى هذا الاتفاق الذي سيقود إلى التطبيع مع إيران ونظامها السياسي، فيما يبدو الأمر وكأن الولايات المتحدة تتخلى عن حلفائها العرب الذين طالما نفذوا ما شاءت من سياسات، وخاضوا حروبا طويلة وشيدوا خصومات محورها إيران ودورها.
الزاوية التي لم ينظر إليها الكثير من التحليلات العربية، تتمثل في الأطروحة التي تقول إن هذا الاتفاق إذا ما أحسن التدبر معه، سيكون أهم حدث تاريخي من منظور المصالح العربية منذ أربعة عقود ونصف العقد، بعكس ما يتم ترويجه تماما. إذ إننا أمام مرحلة تحول عميق دوليا وإقليميا، سوف تنهي حقبة طويلة من الصراع والدعاية وهواجس تصدير الثورة، وحالات الاستقطاب والانقسامات الطائفية التي صعدت الإسلام الشيعي الثوري المدجج بالدعاية وبالأحلام والأوهام والوعود، مقابل صعود الإسلام السُنّي الجهادي المدجج بالثأر والجراح والفوضى.
خلال أربعة عقود ونيف، شاءت المصالح أولا وعاشرا، والصدف أحيانا، أن يدفع العرب وقضاياهم أثمان صراعات الغرب مع طهران على قدم المساواة، وأثمان تمرير المصالح بين الطرفين من تحت الطاولات وفوقها، لا فرق. وشكلت الدعاية السياسية المغلفة بالدين والعواطف والسياسة السطحية، القوة الديموغاجية الكبرى التي لونت التفاعلات الصراعية والتعاونية في المنطقة، ورسمت ملامح التحالفات والحروب والخصومات.
وقد كان الثمن المباشر تثبيت دعائم الاستبداد، وإطالة عمر الأنظمة الشمولية العربية، وتدمير كيانات عربية تاريخية، مثلما حدث مع العراق وسورية. ألم يتم تدمير العراق وإخراجه من التاريخ عبر أربع موجات من التدمير شبه المنظم، تحت وطأة هذه الدعاية؛ سواء في موجة الحرب الأولى، أو في موجة الحصار، وموجة الاحتلال، وموجة الحرب والصراع المذهبي الراهن؟ ثم سلسلة طويلة من الهدر الاستراتيجي الذي مارسته أنظمة أخرى تحت وطأة الدعاية ذاتها التي أدخلت المنطقة في موجات أخرى من الخصومات والانقسامات والتحالفات وسباق التسلح.
باختصار، وبمزاج مستفز، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الاتفاق النووي الإيراني الدولي في تموز (يوليو) الماضي بأنه "خطأ تاريخي". وهو ما يعبر بالفعل عن تطابق الحقيقة السياسية مع الحقيقة التاريخية؛ فقد كانت إسرائيل، على مدى هذه العقود، هي المستفيد الأول من تصنيع الصراع العربي-الإيراني، سواء بموجته الأولى التي كان عنوانها الخوف من تصدير الثورة، أو الأخيرة التي انطوت تحت العنوان الغربي المتمثل في الخوف من السلاح النووي الإيراني. ولن نأتي بجديد بإعادة التذكير بحجم الانتصارات الاستراتيجية التي حققتها إسرائيل جراء الصراعات العربية الإيرانية، وليس أقلها تدمير كيانات عربية بأكملها، وإخراجها من حلبة الصراع التاريخي، وحتى من التسوية، وليس آخرها الطريقة التي أعيد بها رسم أجندة المنطقة وأولويتها التي جعلت في العقد الأخير من الملف النووي الإيراني الأولوية الأولى للاهتمامات الدولية، وليست القضية الفلسطينية.
تطبيع الغرب مع إيران يجب أن يعني لنا، بداية، تآكل قوة الدعاية الإيرانية والدعاية العربية المقابلة؛ فالغرب هو من بقي يصب الزيت على ماكينة هذه الدعاية. وبعد زمن، سندرك أن اكتشاف زيف هذه الدعاية، يعني لحظة الحقيقة، وأن الوقوع في شباكها كان خطأنا التاريخي الكبير، حينما حولنا السياسة إلى ملهاة، مقابل ثلاث عقلانيات سياسية كانت تدير مصالحها بواسطة تلك الملهاة وعبر الدعاية ذاتها، تلك العقلانيات مثلت إسرائيل والغرب وإيران، على حد سواء.