الخطاب الإسلامي ومحاربة الفساد

محمود أبو فروة الرجبي*

الفساد من أكثر الكلمات شيوعاً في الخطاب الإسلامي المعاصر، وقد يقصد به الفساد الأخلاقي من جهة، أو الفساد الإداري، والمالي الصادر عن الحكومات من جهة أخرى، وما يهمنا في هذا المقال هو التركيز على الفساد من النوع الثاني. اضافة اعلان
وجود معظم الإسلاميين في المعارضة في العالم الإسلامي جعلهم من أكثر التيارات تحدثاً عن الفساد الحكومي، لأنهم ليسوا شركاء فيه – عادة- وفي الوقت نفسه هم من كبار المتضررين منه، وإذا استعرضنا الخطاب الإسلامي بمختلف مستوياته، فإنه يمكن حصر طريقة تعامله معه، بما يأتي:
أولاً: الهجوم على الفساد في الخطاب الإسلامي في العادة مبني على إحساس بالظلم، وليس بناء على معطيات حقيقية، أو دراسات وأبحاث، وهذا لا ينفي وجود الفساد، فهو موجود في كافة الدول الإسلامية، وقد وصل إلى مرحلة حرجة في كثير منها، ولكن المقصود هنا أن الأمر لم يتطور لدى صناع الخطاب الإسلامي للوصول إلى حقائق مثبتة يمكن بها إقناع مؤيدي الأنظمة في هذه الدول بوجوده، وهذا الأمر له تبعات لاحقة حينما تتاح لبعض الجماعات الإسلامية استلام الحكم، لأن عدم القدرة على الوصول إلى الفساد بطريقة علمية، وبحجمه الحقيقي، سيؤدي إلى وصول هذه الجماعات إلى الحكم قبل نضجها، ومرورها بمرحلة تمكنها من انتقاد الوضع القائم بطريقة إيجابية وفاعلة، وقد يؤدي هذا إلى تكرار ما فعله أصحاب التيارات الأخرى التي تحولت إلى أسوأ من الأنظمة السابقة حينما حلت مكانها واستلمت الحكم.
ثانياً: في معظم الأحيان لا يتعامل الخطاب الإسلامي مع توصيف دقيق لأسبابٍ الفساد، فهناك دائماً مقولة أن السبب يعود إلى البعد عن الله، وهذا حقيقي من جهة، ولكنه ودون أن يدري صناع الخطاب الإسلامي يخالف أهم مبدأ من مبادئ الإسلام وهو أن هذا الدين شامل، وهو يعالج قضايا الدنيا والآخرة، ولا يقتصر على الأمور التعبدية، ومن ثم فإن الإسلام لا يتعامل مع الأخطاء الفردية بأسلوب الوعظ فقط، بل هناك قوانين رادعة للوقوف في وجهها.
ونحن هنا لا ننتقد تكرار مثل هذه المقولة، ولكننا ضد ان تكرر من قبل البعض دون التفكير بها، فالاخطاء، والفساد بانواعه كلها موجودة في البشرية منذ بدء الخليقة، وليس هناك مجتمع بريء منها بشكل أو آخر، ولكن الفرق أن هناك مجتمعات تضع تشريعات حازمة ضد الفساد، وفي الوقت نفسه توفر بيئات ممتازة تحد منه، بينما هناك مجتمعات أخرى تشجع عليه من خلال بيئة تشريعية ضعيفة، وسلطة تنفيذية غير نظيفة قائمة على المناطقية، أو الطائفية، أو العشائرية، أو تقوية فئة من المجتمع ضد أخرى، وعدم التعامل بالمساواة مع أفراد المجتمع جميعهم.
وحري بصناع الخطاب الإسلامي ان يقوموا بتوصيف الواقع بطريقة عملية، لأن العقل الجمعي وفي حالة الركون إلى حالة مثل إلقاء اللوم على موضوع الابتعاد عن الدين، فإن هذا قد يؤدي إلى التراخي في محاربة الفساد، والبحث عن أسبابه، وجذوره، والمعلوم طبياً على سبيل المثال ان توصيف المرض هو الخطوة الأولى في العلاج، وبغيرها لا يمكن الوصول إلى الشفاء.  وهذا الأمر يؤدي بكثير من الجماعات الإسلامية التي تقدم نفسها بديلاً من النظم القائمة إلى عدم القدرة على وضع برامج عملية تستطيع من خلالها تقديم وصفة فاعلة لمحاربة الفساد وهي خارج الحكم، أو الوصول إلى محاربة حقيقية له، وهي داخل الحكم، ووقتها وفي حالة وصول هذه الجماعات إلى الحكم فإن الأمر الذي سيحصل هو حماس شديد في محاربة الفساد في بداية استلام الحكم، ثم التراخي، واستبعاد العقائديين من دفة القيادة، ليعود الفساد ويعيد إنتاج نفسه بطريقة تتوافق مع الأسس العامة التي يقوم عليها نظام الحكم الجديد.
وإذا أخذنا بعض المؤسسات الإسلامية كنموذج يمكن ان يعطينا مؤشراً لما يمكن ان يصبح عليه الأمر في حال استلام بعض الجماعات الإسلامية للحكم، فإن بعض المتسلقين في هذه المؤسسات يستطيع من خلال تمثيل دور التشدد، والحرص على الدين، ويكون هو بمثابة القائم على توزيع الألقاب، وصكوك الغفران على الناس، وعن طريق التلبس ببعض الأشكال الإسلامية ان يصل إلى ما يريد، بل إنك تستطيع من خلال استطلاع لآراء بعض العاملين في هذه المؤسسات ان تدرك ان الإدارات في معظمها غير قادرة على تقييم الموظفين بشكل صحيح، بل ان مبدأ الاسفنة، والطعن من الظهر، والتسلق، واستخدام الدين كوسيلة لتحقيق الأغراض شائع جداً، خاصة إذا أدركنا ان إظهار التدين سهل، ويمكن لأي متذاك ان يتلبس به، ويبدأ بإطلاق الأحكام المختلفة على الآخرين، واتهامهم بعدم التدين، وإظهار حرصه على تطبيق الدين وكأنه الحاكم بأمر الله.
ومن هنا، وكي لا نصل إلى هذه النقطة، فإنه لا بد من طرح بعض الحلول المقترحة على صناع الخطاب الإسلامي:
أولاً: عدم المبالغة في إطلاق الأحكام، والابتعاد عن أخذ دور القاضي، في التعامل مع الناس، بل عزو كل ذلك إلى القضاء، وهناك فرق بين ان أقول للناس يجب ان نقتل، وندمر فلاناً الفاسد، وبين ان نقول: نشك في ان فلاناً فاسد ونريد تحويله للمحكمة كي تحاكمه، وفي حالة ثبوت التهمة عليه فيجب معاقبته.  من المهم جداً  ترسيخ مفهوم ان هناك جهة عليا في المجتمع، ووحيدة هي صاحبة إطلاق الأحكام على الناس، وهو القضاء، وقد يقول قائل ان حال القضاء في كثير من الدول الإسلامية لا يسر صديقا ولا عدوا، خاصة ان تعيين القضاة، وعزلهم يتم من خلال السلطة التنفيذية، وهذا نعترف به، ولكن يجب ان يقوم الخطاب بعملية رفع، وترقية للمجتمع، وتعليمه على التفكير بعقلية مدنية، عادلة، وليس بطريقة غوعائية تزيل فسادا، ليحل مكانه فساد آخر بلون، وشكل جديد.
ثانياً: تعليم الناس العدل في إطلاق الأحكام، وعدم الانجرار وراء الشائعات، وتكرار ما يقوله الآخرون، ففي بعض الأحيان، وفي أجواء عدم الثقة، تقوم بعض الجهات بالترويج لاغتيال شخصيات نظيفة، ومن المعروف ان الفساد قوي، وذكي، وقادر على تشكيل نفسه حسب الظروف، بل ان التجارب تثبت ان هناك بعض الفاسدين وكي يبعدوا الشبهة عن أنفسهم، يقومون بإلصاقها بغيرهم، وهذا يتطلب من الناس ان يكونوا واعين، وألا يطلقوا أي اتهام دون وجود دليل.  هذه بعض المطلوبات من الخطاب الإسلامي في هذا الموضوع، وكي ينجح الخطاب في ذلك، فالمطلوب من الدولة توفير بيئة نظيفة تبعد شبح الفساد المنظم عن البلاد، وكذلك التعامل مع الناس بالعدل، وبأن المواطنين كلهم أصحاب بلد، وحق، بغض النظر عن انتماءاتهم وأصولهم، وبعدهم أو قربهم من أنظمة الحكم، أما الناس فالمطلوب منهم أيضاً ان يكونوا عادلين مع أنفسهم، والآخرين، وان يحاربوا الفساد بكافة الطرق، سواء كان فساد فردياً، أم مؤسسيا، أم منظماً.
مع غياب الديمقراطية الحقيقية، ومفاهيم حقوق الإنسان، وواجبات المواطن فإن الفساد سيبقى هو الأصل، والشفافية والنظافة هي الاستثناء في العالم الإسلامي. ما هو مطلوب من الخطاب الإسلامي كبير في هذا المجال، ويبقى العبء الأكبر ملقى على القوى الشعبية التي يجب ان توحد جهودها في محاربة الغول المرعب: الفساد.


* كاتب أردني