الخطاب الديني بين نخبويته وعموميته (1)

نارت قاخون

يُمكن تقسيم العلوم والمعارف إلى "علوم نخبويّة" و"علوم عموميّة". أما "النخبويّة"، فهي تلك العلوم التي تحتاج معارف خاصة، ودراسات دقيقة، ومهارات متميّزة لا تتوفّر إلا في فئة قليلة من النّاس؛ كعلوم الفيزياء والرياضيات والهندسة. أما "العموميّة"، فهي معارف حياتيّة يكتسبها الإنسان بانخراطه في الفعل المجتمعيّ الحياتيّ، وتتميّز باحتكامها إلى الأعراف والتجارب والحسّ المشترك بين النّاس وتراكم الخبرة الإنسانيّة.اضافة اعلان
والسؤال هنا: في أيّ العلوم والمعارف يقع "الدين وخطابه"؟
قد توحي النّظرة الأولى إلى ما يُعرف بالعلوم الشرعيّة؛ من أصول العقائد وأصول الفقه والتفسير واللغة والحديث، بأن "المعارف الدينيّة" هي من "العلوم النخبويّة" التي لا تتوفّر إلا لفئة مخصوصة من النّاس؛ درست وتعلّمت هذه المعارف الممتدة طولاً وعرضاً وعمقاً وارتفاعاً. وقد تجعل هذه النّظرة الانتقاد الشائع لخوض "غير العالِم" في الدين مسوَّغاً، بل واجباً. فكثيراً ما نقرأ ونسمع مَن يقول: لماذا لا تحترمون العلوم الدينيّة، فيخوض فيها كلّ شخص؟ لماذا نحترم التخصّص في "الفيزياء" و"الطب" و"الهندسة"، ولا نحترمه في "الدين"؟
قد تبدو هذه الأسئلة في غاية المشروعيّة والمنطقيّة. لكنها، من وجهة نظري، تقوم على جملة من "المغالطات والتضليلات". فإنّ جعل "الدين" مثل "الفيزياء" أو "الكيمياء" أو "الطب"، أو غيرها من "العلوم النخبويّة"، يتجاوز الفرق الجوهريّ في "المخاطَب بهذه المعارف". فالدين من منظور أتباعه و"فقهائه"، خطاب من الله تعالى للنّاس جميعاً؛ فهو خطاب عموميّ، يشترط في المكلّف بالخطاب أن يكون "عاقلاً"، أي خالياً من آفات الجنون. فإذا كان الخطاب بالدين هو للجميع، فلماذا يكون فهم الدين ومعرفة هذا الخطاب "حكراً" على فئة نخبويّة خاصة؟
قد يقول قائل: ما هذا الهراء؟ كيف يُمكن أن يكون فهم الدين متاحاً للجميع؟ وأين تذهب بالعلوم الشرعيّة الضروريّة لفهم أحكام الدين؛ من أصول فقه وتفسير وحديث ولغة؟ ثمّ إن كان الأمر كما تقول، فأين الحاجة إلى العلماء والفقهاء؟ وماذا تفعل في هذا الإرث الضخم من العلوم الشرعيّة الذي أنجزه هؤلاء العلماء؟
هنا تكمن المغالطة الثانية؛ وهي افتراض أنّ معرفة الدين لا تكون إلا بهذه العلوم الدقيقة النخبويّة التي تحتاج أعماراً لفهمها وإتقانها، والأمر أنّ اشتراط هذه العلوم هو صيانة لـ"رجال الدين وعلمائه"، لا للدين نفسه. فالتفصيل والتقعيد والتعقيد في فهم الدين، مرافق لظهور فئة "رجال الدين"، لا لظهور الدين نفسه؛ إنّها أعراض تحوّل الدين من خطاب عام يمسّ الإنسان بما هو إنسان فرداً بذاته، إلى "خطاب مؤسّسيّ" يعبّر عن فئة/ جماعة بعينها، ويحقّق المصالح السلطويّة لهذه الفئة في تقاطعاتها مع السياسة. فالسلطة، في المقام الأوّل، "مؤسسة" تضيق بحريّة الأفراد، وإطلاقِ عقولهم لاختيار ما يريدون. لذلك، تُعرّف السلطة في جميع مظاهرها بـ"قوّة احتكاريّة"؛ تحتكر القرار والصواب والرأي العام و"العنف" أيضاً.
لا يُمكن إنكار ضرورة السلطة في ظلّ مفهوم الدولة، شكلاً لإدارة الجماعة البشريّة. وإذا كنتُ الآن أتجاوز نقاش قضيّة "ضرورة الدولة" شكلاً وحيداً لإدارة الجماعة البشريّة، فإنّني أجادل في "ضرورة الفقهاء والعلوم النخبويّة" لإدراة الدين في الجماعة البشريّة. وهذا يدفعني إلى التفريق بين مستويين من مستويات الخطاب الدينيّ: مستوى الشأن الفرديّ، ومستوى الشأن العموميّ الجماعيّ. وسأتجاوز مؤقتّاً ومؤجِّلاً قضية "الدين في الشأن العام"، لأقول رأيي في مسألة "الدين في الشأن الفرديّ". فالذي أراه منسجماً مع طبيعة الخطاب الدينيّ الذي يخاطب الأفراد، بغض النّظر عن مستويات تحصيلهم من العلوم الشرعيّة وغيرها، أنّ هذا الخطاب هو من "المعارف العموميّة" التي لا تحتاج "فقهاً خاصاً"، ودراية عميقة بأصول الفقه والتفسير وغيرها، بل هي قائمة على المعرفة الكافية الضروريّة باللغة العربيّة التي جاء بها الخطاب القرآنيّ. وهذه المعرفة متاحة حتى للأميّ كما يرى الشاطبيّ؛ فكلّ ما يحتاجه "الفرد المسلم" هو بعض أصول عقديّة، ومجموعة أحكام شرعيّة ترتبط بالعبادات والمعاملات التي تعمّ لها الحاجة، أو بتعبير آخر "تعم بها البلوى"، وما عدا ذلك فهو من الفضول التي أقامها الفقهاء لإقامة "سلطانهم" على دين النّاس. والقاعدة في الشأن الفرديّ من أمور الدين، هي ما جاء عن النبيّ، صلى الله عليه وسلم: "استفتِ قلبك"، وإن "أفتاك الناس وأفتوك"، "الإثم ما حاك في نفسك وخشيت أن يطّلع عليه النّاس، والبرّ ما اطمأن إليه قلبك". أمّا محاولة "الفقهاء" صرف هذا الحديث عن عمومه، وممحاكاتهم ليجعلوا "استفتاء القلب" خاصاً لفئة دون فئة، فهو معارض للحديث أولاً، ومحاولة لاحتكار البرّ و"الفتوى" ثانياً.
قد أواجَه بالقول: إنّ كلامك سيؤدي إلى الفوضى في الدين وأحكامه. ثمّ أنت تتجاهل "جهل الناس" بالضروري من اللغة وأدوات الفهم لفهم خطاب الله. فأقول: أنا أتحدّث الآن عن الدين في الشأن الفرديّ، وبما أنّه شأن فرديّ فإن اختلاف النّاس فيه ليس من الفوضى، بل هو تحقيق لقول الله تعالى: "وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا" (مريم، الآية 95)؛ فالمسؤوليّة هنا فرديّة. وعليه، فيكون جواب الاعتراض الثاني فرعاً عن هذه "المسؤوليّة الفرديّة"؛ فكلّ من آمن بالإسلام ديناً، عليه أن يعرف من اللغة وطرائق الفهم ما يجعله قادراً على فهم "ما يحتاجه من الخطاب القرآنيّ والنبويّ".