الخطاب الديني ينحو إلى اللامركزية

ظل الخطاب الديني (بما هو المعالجة المنهجية للنص الديني) ثابتاً بسبب ثبات واستقرار الأنظمة الاقتصادية والسياسية المحيطة بالدول والمجتمعات، حتى ظن الناس أن الخطاب هو الدين نفسه. وعندما هبت رياح التغيير التي اجتاحت العالم مصاحبة للثورة الصناعية تغير الخطاب وتعدد بطبيعة الحال، وفي عالم الإسلام ظهر خطاب ديني جديد يؤسس لعلاقة بين الدين والدولة والمجتمع مختلفة عن الخطاب الديني التاريخي والتقليدي، وتحول الخطاب الديني غير الرسمي الذي تشكل في ظل الخلافة العثمانية إلى جماعات سياسية واجتماعية تدعو إلى استئناف الخلافة، ولقي هذا الخطاب تشجيعاً وتأييداً من السلطات السياسية، ثم تطور وبسرعة إلى جماعات سياسية واجتماعية مستقلة عن الدولة، تعمل في أحيان وأماكن بموافقتها وعلمها وفي أحيان وأماكن أخرى من دون موافقتها. وبدأ الخطاب الديني الرسمي بالضمور والانحسار، ولم يعد قادراً على مواكبة العصر والتحولات، ولقي إعراضاً وهجراناً من النخب والأجيال.اضافة اعلان
وعندما عاد المد الديني وبدأ يكتسب تأييداً متزايداً منذ سبعينيات القرن العشرين، انتشر في جميع الأوساط والطبقات الاجتماعية وفي غياب وانحسار الخطاب الديني التقليدي فقد نشأ وغلب خطاب ديني جديد يقوم على فكرة تقديس التاريخ والتجارب الدينية وشمول الدين لجميع شؤون الحياة ويدعو إلى تطبيق الدين في الحكم والسياسة والاقتصاد والتعليم والإدارة، وتشكل خطاب ديني متمكن مدعوم بمحتوى فكري وإعلامي وإرشادي يدعو إلى ويقدم نماذج جديدة أو يجدد نماذج تاريخية في الحكم والاقتصاد والاعلام والتعليم، وينشئ مواقف وتطبيقات مستمدة من هذا الخطاب تغير في أسلوب الحياة والمؤسسات والأفكار والعلاقات والتحالفات الاجتماعية الداخلية والدولية، ولقي هذا الخطاب قبولاً وانتشاراً وتأييداً في الدول والمجتمعات والأسواق.
لقد حل هذا المدّ والمصحوب بخطاب جديد في فراغ، وشكّل من غير منافسة الفهم والفكر الديني السائد اليوم والمتبع في الدول والمجتمعات والمناهج التعليمية والإدارات الدينية الرسمية وكليات الشريعة والإعلام والفضائيات، ولم يعد يغير شيئاً أو يؤثر إبعاد "الإخوان المسلمين" والجماعات السياسية الدينية عن التعليم والإعلام والإرشاد في حقيقة أن الخطاب الديني السائد والمتبع هو خطاب الإسلام السياسي وإن كان يحمله وينشره عاملون ومؤسسات رسمية واجتماعية مختلفة عن جماعات الإسلام السياسي أو حتى معادية لها.
ويمكن اليوم ملاحظة مجموعة من الظواهر والحالات الدينية المتشكلة بعيداً من تأثير الجماعات الدينية التقليدية المعروفة، مثل المساجد الكثيرة والمتزايدة وروادها المستقلين عن الجماعات، والجمعيات الثقافية والاجتماعية ذات الطابع الديني، ونشأت أيضاً مؤسسات اقتصادية وإعلامية وتعليمية كثيرة قائمة على أساس التدين ولا علاقة لها في الوقت نفسه بالحكومات أو الجماعات، مثل البنوك وشركات التأمين (الإسلامية)، والمدارس والجامعات والإذاعات ومحطات التلفزة ومواقع الإنترنت وشركات تنظيم رحلات الحج والعمرة ومحلات بيع الكتب.
وفي تحول الظاهرة الدينية من جماعاتية إلى مجتمعية تحولت الفرص والتحديات في الخطاب في معظمها إلى العلاقة بين الدولة والمجتمع أكثر مما هي مدرجة في العلاقة بين الدولة والجماعات الدينية، وبذلك فإن حظر الجماعات الدينية لا يؤدي بالضرورة إلى انحسار هذه الجماعات، وقد تحدث مشكلة لا تقل خطورة إن لم تكن أكثر، وهي أن التشدد والعنف والإرهاب يحمله أفراد ومجموعات غير معروفة وغير متوقعة أيضاً.
كما أن الجماعات الدينية ستظل قادرة على تجديد نفسها والاستمرار في عملها واكتساب المؤيدين، وستعود إلى الظهور مرة أخرى لأي سبب أو ظرف كما حدث في تونس ومصر وسورية والعراق وليبيا، إذ ثبت أن السياسات الرسمية المتشددة مع الجماعات الدينية لم تغير شيئاً في قدرتها على التأثير والنمو، وذلك لسبب واضح وبسيط هو أنها تعكس اتجاهات ومواقف وثقافات راسخة في المجتمعات ومؤسسات الدولة التعليمية والإرشادية والتشريعية.