الخطوط الحمراء في زمن الثورات العربية

ثمة ظاهرة تستدعي الانتباه والتمحيص، مرتبطة بما يسمى "ربيع العرب"، ألا وهي الخطوط الحمراء.  ففي مصر ما بعد الثورة، زالت بعض مكونات النظام السياسي، لكن كل الجدل السياسي يتركز على أن السلطة القضائية خط أحمر. وفي اليمن، هرعت الأمم المتحدة ومجلس التعاون الخليجي لنجدة علي عبدالله صالح، باعتبار أنه الخط الأحمر في اليمن. ويستمر الخط الأحمر في العبور إلى سورية، حيث لا تدخل دولي حقيقيا إلا عندما يعبر النظام السوري الخط الأحمر، وهو هنا يتعلق باستخدام الأسلحة الكيماوية. وعندما قيل إن النظام استعمل هذه الأسلحة، كان الرد أنه ما من دليل على أن الخط الأحمر قد تم تجاوزه، والمطلوب تحقيق للتأكد من ذلك.اضافة اعلان
ظاهرة الخط الأحمر في زمن ما بعد الثورات يمكن تفسيرها على مستويين. الأول، داخلي يتعلق بحرص من بقي من النظام السابق على الحفاظ على المكتسبات نفسها التي كانوا يتمتعون بها قبل أن تأتي الثورات. وهي محاولة تبدو واضحة في الحالتين المصرية واليمنية. فالسلطة القضائية في مصر ما تزال ترى نفسها غير قابلة للمساس بها؛ فهي مستقلة ومقدسة. وبالعودة إلى التاريخ قليلا، فإن ثمة نمط غالب للتغيير بعد الثورات، وهو القطيعة مع الماضي، وإلا لماذا تسمى ثورة؟ فهي تغيير ينهي حالة أرادها جزء كبير من الناس أن تتغير. والرغبة في التغيير تكون في العادة عندما يرى ذلك الجمع من الناس أن الإصلاح التدريجي لم ينجح. فالثورات الحديثة في أوروبا، وعلى رأسها الثورة الفرنسية وما تلاها، وكذلك ما حدث في منطقتنا من ثورات، أنهت حكما وحكومات؛ فلا قداسة لمن كان يبرر الظلم والاستبداد. والمهم في السياق نفسه، لم كان الصوت خافتا حول استقلال القضاء في زمن الاستبداد، لكنه ما لبث أن تعالى في مرحلة ما بعد الثورة؟ الجواب هو الرغبة في تسيير الحوادث في اتجاهات تخدم فئات ولا تخدم القاعدة العريضة من المجتمع.
كذلك، كانت الرغبة في الحفاظ على الرئيس اليمني، علي عبدالله صالح، والمؤسسة العسكرية هناك. وفي التاريخ المعاصر كانت الثورة في إيران التي ختمت القرن العشرين، وجسدت مثالا على القطيعة الكاملة مع الفترة السابقة. صحيح أن ما تم بعد ذلك يطاله الكثير من النقد، حتى من أولئك الذين ثاروا، لكن الفكرة أن التغيير كان شاملا؛ طولياً وعرضياً.
المستوى الثاني في فهم ظاهرة الخط الأحمر في مرحلة ما بعد الربيع العربي، يتمثل في رغبة ما يسمى بالمجتمع الدولي في المحافظة على حد أدنى من الوضع السابق. وقد ينطبق هذا على اليمن كذلك، فيما يتعلق بما يتم الآن من مؤتمر للمصالحة. لكن المثال الأبرز على المحافظة على المشهد العام هو ما يحدث في سورية. فعلى الرغم من رغبة الولايات المتحدة، ومعها دول أوروبية وأخرى إقليمية، في التخلص من النظام السوري منذ العام 2004، إلا أنها الآن تبدو في خندق الراغب في أن لا يتم التغيير بالشكل الذي يريده أهل الثورة في سورية. فرسم خطوط حمراء هو في الحقيقة إعطاء فرص لتعقيد المشهد الداخلي في مجتمع سورية ومحيطها الإقليمي من جهة أخرى.
الخطوط الحمراء في زمن ثورات العرب تعكس رغبات في المحافظة على أوضاع متصلة بزمان خلا، أراد له الكثيرون أن يتغير، وأن تغيب شمسه بلا رجعة، ولسان حال هؤلاء: زمن الخطوط الحمراء ولّى إلى غير رجعة.