الخوف من الحاضر المخيف!


بدا الارتباط بين العولمة و"العودة" إلى الدين، خلال العقدين الأخيرين، ارتباطاً موضوعياً، لأن ما فعله المسلمون العائدون إلى الدين، وهم الذين يمثلون أبرز العائدين إلى دينهم في العالم، لم يكن توظيفاً للدين من أجل التقدم والتأثير في مجريات الأحداث الدولية، بل كان بمثابة احتماء بالدين (ما يفهمونه عن الدين) من الهجوم الخارجي الذي يريد، بحسب تحليلهم، أن يحرفهم عن دينهم وتقاليدهم، ليسهل له توظيفهم في تحقيق أجندته الشريرة.اضافة اعلان
هكذا فإن الظاهرة التي رافقت العولمة، ليست في حقيقتها ظاهرة صعود ديني، وإنما "عودة" إلى الدين، بحسب تعريف أصحابها. بعبارة أخرى، فإن ما لجأ إليه المتدينون، بين المسلمين خصوصاً وبين كل المتدينين عموماً، إنما كان بمثابة "هروب" إلى ما يعرفونه عن الدين. وما يؤكد ذلك، أن المسلمين العائدين إلى الدين (وليس المسلمون المتقدمون بتدينهم للمشاركة في صنع التاريخ)، لم يهربوا إلى دينهم ليستخلصوا ما يناسب عصرهم وقضاياهم، بل هربوا إلى الماضي الذي كان فيه أجدادهم هم المسيطرون على العالم، علّهم يصيرون أقوياء مثلهم!
الموضوع الديني في العالم العربي، إذن، ليس فقهياً في جوهره، ولا يشتغل بالآخرة، بل هو حضاري يُعنى بقضايا الدنيا وطموحات العرب للدخول في التاريخ، ويخطئ من يناقشه من زاوية الطروحات المتعلقة بالأفراد وحياتهم اليومية، ومسائل العبادات والمعاملات. فتلك حين تُطرح، لا تكون في الحقيقة مقصودة لذاتها، وإنما لـ"تطبيق شرع الله"، ومن ثم استجلاب نصرته تعالى ونصره، تحقيقاً للهدف الحضاري الدنيوي الجمعي.
وهذا معناه أن الذي تزامن والعولمة ليس صعوداً دينياً، بل استنجاداً بالماضي الجميل لمواجهة الحاضر المخيف. ولعل هذا ما يفسر أن العرب لم يشتغلوا بالماضوية الدينية واستدعاء السلف وحسب، بل أيضاً بجمع التراث الاجتماعي وتدوين العادات والتقاليد واستعادتها، مدّعين أنهم يريدون حفظها وحفظ أصالة أمتهم. والحقيقة أن الخوف من مواجهة الحاضر، دفعهم إلى تمني العيش في الماضي، أي ماضٍ.
تنظيم "القاعدة" بدا أبلغ مثال على مواجهة العولمة بالهروب إلى الماضي؛ ذلك أن شدة المواجهة ترتبط طردياً بمستوى التعمّق في الماضي. طروحات "القاعدة" مثّلت أكثر الأفكار ماضوية بين العائدين إلى الدين؛ فالتنظيم لم يبشّر فقط بمجتمع الصحابة المتخيّل، ودولته المفترضة، بل ظهر قادته أنفسهم وكأنهم رجال حضروا من الماضي؛ بلباسهم، ولغتهم، وكناهم. وإذا كان "القاعدة" مثّل ذروة الرد الماضوي، المستتر بالتدين، على العولمة، فإن منهجه لم يكن غائباً عن المجتمعات العربية المستسلمة لفكرة "شرعية الماضي"، ولا عن الحركات "الإسلامية" الأخرى التي مثّلت امتداداً "سلمياً" لأفكاره الماضوية، كون هؤلاء كلهم قدّموا الإسلام الحقيقي باعتباره استعادة للماضي، اختلفت درجتها من طرح إلى آخر، من دون أن تختلف فيما بينها في أصل الفكرة الماضوية.
ما جرى لمواجهة العولمة في العالم العربي، هو ذاته الذي جرى لمواجهة الاستعمار الأوروبي منذ منتصف القرن التاسع عشر. لقد أخذ الرد على الهجوم الخارجي، في الحالتين (وإن كانت في حقيقتها حالة تاريخية واحدة، لأن الهجوم الإمبريالي ظل مستمراً منذ الاستعمار العسكري المباشر)، منحىً أيديولوجياً؛ سواء من خلال أدلجة التراث والماضي واعتبارهما -عند المتدينين- نموذجاً للمواجهة، أو من خلال أدلجة الحداثة الأوروبية، وتالياً العولمة الأميركية، واعتبارها -عند آخرين- مرشداً بديلاً للتقدم والتحضر والنجاح. هكذا، ظل العرب، في ظل الاستعمار وفي ظل العولمة، رهناً للتبعية لآخرين: سواء عاشوا في زمان سابق، أو يعيشون في مكان آخر، مبتعدين بذلك عن صياغة خطة تصدر من واقعهم، وتعينهم على التعاطي مع عصرهم، لتحقيق مصالحهم!