الدائرة الشرسة للإرهاب في فرنسا

الشاحنة التي استعملها منفذ الهجوم الإرهابي في نيس الفرنسية مؤخراً - (أرشيفية)
الشاحنة التي استعملها منفذ الهجوم الإرهابي في نيس الفرنسية مؤخراً - (أرشيفية)

دانيال بايمان* - (سليت) 16/7/2016

ترجمة: علاء الدين أبو زينة


84 شخصاً على الأقل قتلوا في نيس، فرنسا، بعد أن اندفعت شاحنة بشكل متعمد لمسافة ميل عبر جموع من الناس المحتشدين الذين يحتفلون بـ"يوم الباستيل"؛ ويعتقد أن "داعش" أو أحد أنصاره مرتبط بالهجوم. وبينما نتخبط في الرعب الذي صنعه حدوث مذبحة إرهابية أخرى، شرعت التقارير الإخبارية في التسرب، لتعطينا شعوراً بالهجوم، وضحاياها وأولئك الذين وقفوا خلف جرائم القتل.
سوف نعرف المزيد في الأيام المقبلة، لكننا نعرف مسبقاً أن أوروبا -وفرنسا على وجه الخصوص- تواجه مشكلة إرهاب، وأن الأمور ربما تذهب من سيئ إلى أسوأ في المستقبل القريب. ولعل من المفارقات أن يكون أحد أسباب تصاعد الهجمات هو النجاحات العسكرية التي تسجلها الولايات المتحدة وفرنسا والدول الأخرى، والمقاتلون المحليون ضد نواة "داعش" في العراق وسورية، والنكسات التي تمنى بها محافظات التنظيم الرئيسية، مثل منطقتها في ليبيا. وبعد هذه التراجعات، يحتاج "داعش" الذي لطالما تفاخر بنجاحه في إقامة خلافته التي تضمحل الآن، إلى تسجيل انتصارات للتعويض عن هذه الخسائر الكبيرة. وكان مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، جون برينان، حذر في وقت سابق من هذا الشهر من أنه "بينما يتصاعد الضغط على داعش، فإننا نقدر أنه سيقوم بتكثيف حملة إرهابه العالمية من أجل الاحتفاظ بهيمنته على أجندة الإرهاب العالمية".
يشكل دهس الناس بواسطة شاحنة شكلاً جديداً من العنف بالنسبة لـ"داعش"، ولو أن دعايته دعت الأنصار إلى ممارسة القتل بـ"صدم الناس". وقد أوصى فرع القاعدة في اليمن في الماضي بـ"حصد أعداء الله". لكن هذا هو الهجوم الإرهابي الكبير الرابع الذي يشن في أوروبا خلال الأشهر الثمانية الماضية. وقد قتل الإرهابيون الذين يوجههم "داعش" 130 شخصاً في تشرين الثاني (نوفمبر) في باريس؛ وفي آذار (مارس)، قتل مفجرون انتحاريون 32 شخصاً في بروكسل؛ وقبل أسبوعين فقط، قتل ثلاثة رجال يُعتقد أنهم مرتبطون بـ"داعش" أكثر من 40 شخصاً في مطار اسطنبول التركي.
وسوف تفضي هذه الهجمات حتماً، وبشكل غير متناسب، إلى جهود استخباراتية أكثر شدة ضد شبكات "داعش" المشبوهة، وإلى اتخاذ إجراءات أمنية أكثر صرامة بشكل عام. وللأسف، من المرجح أن تفضي هذه الهجمات أيضاً إلى تقوية الأصوات المعادية للمسلمين في فرنسا وعبر كامل أوروبا، وتعزيز الإهانات اليومية التي توجه إليهم، وزيادة شعور المجتمعات الإسلامية بأنها موضع اشتباه وتحت الحصار. وسوف يستغل "داعش" الغضب والعار الناجمين بطريقة تزيد من مخاطر وقوع المزيد من الهجمات في المستقبل.
تواجه الأمم الأوروبية الآن أنواعا عدة من التهديدات الإرهابية من "داعش". ويتمثل النوع الأول في العدد غير المسبوق من المقاتلين -أكثر من 5.000- الذين قامت أوروبا بتصديرهم إلى العراق وسورية للقتال تحت رايات "داعش" والجماعات الجهادية الأخرى. وجاء أكثر من 900 من هؤلاء المقاتلين (بمن فيهم 200 امرأة) من فرنسا. وقد مات منهم أكثر من 130، وعاد نحو 250 إلى أوطانهم، ويعتقد أن الآخرين ما يزالون في العراق وسورية. وتُجسد هجمات باريس، بتنسيقها وتنفيذها، طبيعة الخطر الذي يمكن أن يشكله مثل هؤلاء المقاتلين: حيث يتيح الوقت الذي يقضونه في ساحة المعركة اكتسابهم مهارات القتال، وتلقينهم عقائدياً، وتطوير الشبكات لاستغلالها في هجمات مستقبلية.
وبالإضافة إلى ذلك، يستطيع قادة "داعش" توجيه عملياتهم لتحقيق أقصى قدر ممكن من التأثير. وفي حين تتقلص ما تدعى "الخلافة"، ربما يحاول المزيد من هؤلاء المقاتلين العودة إلى بلدانهم. ويعتقد أن أكثر من 1.000 مقاتل فرنسي آخر قد أصبحوا متطرفين، لكنهم لم يذهبوا إلى العراق وسورية، ويشكل ذلك خطراً آخر. وربما كان الكثيرون حاولوا الذهاب إلى سورية في الماضي. أما الآن، وبالعمل بتوجيهات من قادة "داعش" الذين يتواصلون معهم، أو ربما بالاختلاط بالمقاتلين الأجانب العائدين، قد يضرب هؤلاء الأفراد مباشرة في فرنسا ودول أخرى.
أفراد هذه الفئة الأخيرة هم "ذئاب وحيدة" حقيقيون -من الذين يستلهمون "داعش" أو الأيديولوجيات الجهادية الأخرى، وإنما بلا وجود صلة عملياتية مباشرة بمجموعة معينة (ويظهر أن الهجمات في سان برناردو وأورلاندو تقع ضمن هذه الفئة). وقبل سنتين من الآن، كانت دعاية "داعش" تؤكد قدوم المقاتلين إلى أرض "الخلافة" للمساعدة في تقويتها وتوسيعها. ولكن، في وقت سابق من هذا العام، أعلن المتحدث باسمها وقائد عملياتها الخارجية، محمد العدناني، أن "أصغر عمل تقومون به في عقر دارهم أفضل وأحبّ إلينا من أكبر عمل عندنا وأنجع لنا وأنكى بهم".
تبدو فرنسا، كما رأينا، مشكوفة أمام الإرهاب بشكل خاص. وكما أوضح مؤخراً زميلاي في معهد بروكينغز، ويل مكانتس وكريس ميسيرول، فإن الثقافة السياسية الفرنسية تشكل في ذاتها مشكلة في مكافحة الإرهاب. وقد وجد زميلاي أن "أربعاً من بين خمس دول ذات أعلى معدلات التطرف في العالم هي فرانكفونية، بما فيها أكبر اثنتين في أوروبا (فرنسا وبلجيكا)". وأحد أسباب المشكلة هو الأعداد الكبيرة من الشباب العاطلين عن العمل في الضواحي التي تشكل أرضاً خصبة للتجنيد المتطرف. لكن جزءاً منها أيضاً يتعلق ببرامج فرنسا القوية للعلمنة، التي تحظر على الفتيات ارتداء الحجاب في المدارس، والتي ينظر إليها الكثير من المسلمين باعتبارها هجوماً متعمداً على دينهم. كما أن ثقة المسلمين في الحكومة والأجهزة الأمنية منخفضة. أضف هذا الشعور بالإهانة إلى وجود حركة يمينية متطرفة صاعدة تهاجم المهاجرين والمواطنين المسلمين باستمرار، وستكون شروط الذهاب إلى التطرف قوية.
بالمقارنة، تبدو الولايات الأميركية أقل هشاشة أمام الهجمات الإرهابية. فقد ذهب أقل من 300 أميركي فقط للقتال في العراق وسورية. ويعود ذلك جزئياً إلى الفرض القوي والفعال للقانون والاستخبارات الفعالة لكبح المتطوعين. لكن جزءاً آخر يعود إلى أن المجتمع الأميركي المسلم هو أكثر اندماجاً بكثير من نظيره الفرنسي، وهو يتعاون بانتظام مع جهات إنفاذ القانون. ومع أن السياسات الأميركية تصبح أكثر عدائية تجاه المسلمين، لكننا نستطيع أن نأمل في أن تكون هذه العاطفة المناهضة للمسلمين في أميركا وصلت ذروتها وشرعت بالتراجع، حيث تشير الاستطلاعات الأخيرة إلى أن المواقف الإيجابية تجاه المسلمين في صعود.
يبقى استمرار العمليات العسكرية والاستخبارية التي تشنها قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة وشركاؤها المحليون ضد نواة "داعش" ضرورياً، لكن هذه العمليات ستحتاج وقتاً حتى تثمر، كما أنها لن تحل مشكلة الإرهاب في النهاية مع ذلك. ولا شك أن إيقاف هجوم مثل الذي وقع في نيس هو أمر صعب للغاية. فقد اختار المهاجم هدفاً "ناعما" (بلا دفاع)، وأظهر أن شخصاً مريضاً واحداً يستطيع أن يقتل الكثيرين باستخدام المزيج المناسب من التصميم والحظ. وللأسف، ستكون ردة الفعل الأكثر ترجيحاً بعد هجوم نيس هي الأسوأ أيضاً: المزيد من النقد والعداء تجاه المسلمين الفرنسيين والأوروببيين، بطريقة تجعل من الأصعب على الأجهزة الأمنية الأوروبية نيل تعاون المجتمعات المحلية، وتجعل من الأسهل على "داعش" كسب المجندين وتسجيل الانتصارات.

* هو أستاذ والعميد البارز المشارك في كلية الخدمة الخارجية بجامعة جورج تاون، وكبير الباحثين في مركز سياسة الشرق الأوسط في معهد بروكينغز. كتابه الأخير هو "تنظيم القاعدة، والدولة الإسلامية، والحركة الجهادية العالمية: ما يحتاج كل شخص إلى معرفته".
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Vicious Cycle of French Terrorism

اضافة اعلان

[email protected]