الدم والخيال والسلطة

هذه واحدة من أكثر اللحظات إبهاما وغموضا، فيما تدور المنطقة بأكملها حول نفسها ويدور العالم حولها، وسط إفلاس سياسي، وحالة استعصاء على التغيير غير مسبوقة؛ هل الديمقرطية تخون الناس في هذا الجزء من العالم، أم أن الناس يخذلون الديمقراطية حينما تُستخدم أداة لإعادة إنتاج الصراعات والعنف والفساد؟ وتثبت الأحداث من جديد أن لا حدود لصبر الشعوب في هذه المنطقة.اضافة اعلان
كما تثبت التجربة عمليا أن دعاة مشروع الدولة المدنية الديمقراطية يجدون أنفسهم اليوم بين خيارين أحلاهما مر: فإما التعامل مع إرث النظم السابقة والقبول بالتعايش مع نخب مستبدة وفاسدة مع بعض الترقيع، ولدينا أمثلة على نماذج للتحول الديمقراطي الهش التي لا تزيد ولا تقل عن هذا الوصف؛ فيما الخيار الثاني هو التعايش مع دعاة الدولة الدينية الذين لم يثبتوا أداء سياسيا فارقا في تجاربهم المصبوغة بالدم والخيال.
الخيال السياسي المريض، ليس مرضا سياسيا أو علة اقتصادية أو اجتماعية، إنه جائحة ثقافية بالمعنى الحقيقي، يبدو في الطريقة التي يفكر من خلالها الأفراد والجماعات بأنفسهم وبالآخرين، وكيف يعبرون عن ذلك. وعلينا أن نلاحظ عبر التاريخ العربي الإسلامي المحطات الجائرة التي شهدت دماء وقتلا وتطبيعا مع الموت؛ كيف عمل تحريك الاختلالات الثقافية الراكدة على بروز أفراد وجماعات يعانون من خيال سياسي مريض، كما هي الحال لدى شعوب أخرى.
المشكلة في العالم العربي المعاصر الذي ينتمي إلى ثقافة تاريخية مشتركة، أن الدولة الوطنية تنازلت باسم الأيديولوجيا والبحث عن الشرعية عن وظيفتها الثقافية التي تعد الوظيفة الأهم في مسار بناء الدول، وتركت هذه الدول مجتمعاتها مكشوفة أمام الهوس والخيال السياسي المريض.
وفق علم نفس الجماهير والجماعات، يذهب الناس بشكل جماعي، في مرحلة من مراحل القنوط واليأس، إلى الهروب الجماعي المؤقت من مواجهة المصير، ويرفضون الاشتباك مع الوقائع. وأهم أشكال هذا الهروب المؤقت يبدو في الانسحاب من الاهتمام بالشأن العام، والشعور بالغربة عن الوقائع المحيطة والتطورات القريبة، فيما يتدثرون بالصبر ويتعللون بالمزيد من الصبر.
الصبر السياسي الطويل يدخل العامة إلى العمق، وتصبح التفاصيل في صلب الأولويات، ما يغير مضامين الوعي الاجتماعي. وفي هذه اللحظة، أي حينما تصل العامة إلى التفاصيل، تتغير حتما قواعد اللعبة، ولا يعود بالإمكان تمرير التصنيع السياسي للنخب والمواقف، ولا قبول مبررات للأزمة الاقتصادية الاجتماعية والسياسية، ولا إعادة إنتاج الوظائف التقليدية للدولة والمؤسسات والجماعات في العلاقة مع الإقليم والعالم في المجالات السياسية والاستراتيجية.
ربما تكون تلك العبارة التي أطلقها مواطن مصري بسيط على إحدى الفضائيات "أنا زعلان من الشعب" مفارقة تختصر النتائج التي وصلت إليها الأحوال في إعادة إنتاج الخراب، وأقسى حالاته حينما يأتي الخراب من صناديق الاقتراع التي طالما علّق عليها صبر المجتمعات الآمال الكبيرة. ومن المفارقات المؤلمة، أن معظم حالات الاشتباك الأهلي في آخر عامين، جاءت مفرغة من أي مضمون اجتماعي أو سياسي حقيقي، ما يفسر أنها حالة احتقان توظف لتحريك حالة سياسية؛ بمعنى آخر حالة من الهشاشة الثقافية في بنية المجتمعات وفي تعريفها لذاتها، وفي الطرق التي يتبعها الأفراد لتحقيق مصالحهم.
ثمة طبقات من الثقافة المناوئة للتغيير حفرت عميقا في بنى المجتمعات العربية، صاغتها علاقات القوة والخوف والمصالح والخسائر على مدى ثلاثة أجيال. في المقابل، هناك فراغ ثقافي في الجهة الأخرى بعد أن تم تفريغ الطاقة الحية وتقزيم رموزها وتشويههم تارة، أو إجبارهم على العزلة والتوبة عن الحياة.
حائرون لا نملك إجابات واضحة لأسئلة الناس. وهو ما يتكرر في هذا الوقت حول ما يحدث في العراق وسورية وليبيا واليمن وغيرها، بين حدود المعركة والمقاومة وحدود الحرابة وقطع الطريق والتطبيع مع القتل، حيث فوضى المعرفة أوسع وأكثر قسوة من فوضى مشهد المعركة.