الدور الرقابي لسلطات التشريع في تحقيق النزاهة وكشف مواطن الفساد

يعتبر الفساد آفة تنخر في بنيان الدولة والمجتمع في الوطن العربي. وإذا كان الحاكم والمحكوم في هذه الدول يشتكي من ظاهرة الفساد، ويطالب بتطبيق مبدأ النزاهة، فإن الآليات التي وضعتها الدول، ظلت عاجزة عن فرض النزاهة المطلوبة. واستتبع ذلك استمرار الشكوى من تلك الآفة في إدارات القطاعين العام والخاص.اضافة اعلان
إن السلوك النزيه هو سلوك فردي ابتداء، من قبل المسؤول صاحب القرار ومن يتولى التنفيذ. وهذا يعتمد على التكوين الشخصي التربوي والأخلاقي. ومن ثم، فإن الطريق لتحقيق المطلوب تتمثل في قدرة الإدارة على حسن الاختيار أولاً، والرقابة المؤسسية الفاعلة ثانياً، ثم الجزاء الرادع والمانع عند الانحراف ثالثاً. وهذه الأمور الثلاثة أصابها خلل كبير عندنا، يتفاوت مداه من دولة لأخرى.  وإذا كانت ثورات الربيع العربي قد كشفت ما كانت الأنظمة السياسية تحاول جاهدة إبقاءه مستوراً عن الناس، وخافياً، لتجنب الملاحقة القانونية، فإن ما تكشّف يؤكد أن الخلل كان موجوداً في المراكز القيادية. وبالتالي، لم يكن يعني هذه المراكز أن يمتد الخلل إلى المستويات الأدنى، أو تسكت على القائم في تلك المستويات؛ فأصبح لا بد أن يبدأ الإصلاح من الأعلى ليمتد إلى الأسفل. وهذا الحال عندنا على خلاف الحال في الديمقراطيات الغربية التي تتولى أمرها قيادات صالحة؛ حيث يتم فيها الإصلاح للأدنى ابتداء، لضمان صعود الأدنى إلى الأعلى على نحو صالح.
ومن الناحية الدستورية، فإن من يختار الأعلى في أي دولة هو الشعب؛ إذ إن كثيرا من دساتير دول الوطن العربي تنص على أن الشعب هو مصدر السلطة. وحيث إن هذا الشعب لا يستطيع أن يجتمع لفرض قانون أو قرار، فإنه ينتخب عنه نواباً يمثلونه، ليتكون منهم المجلس التشريعي الذي يجسد إرادة الشعب ويباشر السلطة باسمه.
وهذا المجلس، كسلطة تشريع، هو الذي يعطي الثقة للحكومة لتمارس سلطة التنفيذ؛ وهو الذي يصدر القوانين التي يتوجب على الحكومات تنفيذها وعلى القضاء تطبيقها. ومن هنا، فإن أعضاء سلطة التشريع ينبغي ابتداء أن يكونوا القدوة في الالتزام بالسلوك القويم، وممارسة دورهم في فرض النزاهة ومحاربة الفساد. وهكذا، فإن سلطة التشريع، بموجب ما لها من ولاية وصلاحيات، تستطيع تفعيل العناصر الثلاثة للنزاهة وكشف الفساد:
1 - فهي تستطيع أن تضع الضوابط والشروط اللازمة لحسن الاختيار للوظائف العامة والمراكز القيادية في الدولة.
2 - وتستطيع وضع القواعد التي تتكفل برقابة فاعلة على الأداء والتعامل مع المال العام والوظيفة العامة، وضبط شركات ومؤسسات القطاع العام والقطاع الخاص.
3 - وتستطيع تشريع القواعد التي تجرّم الانحراف عن أحكام القانون وغايات هذه الأحكام.
وإذا كانت الحكومات هي سلطة التنفيذ للقواعد التي تضعها سلطة التشريع، فإن الدساتير تعطي لسلطات التشريع صلاحيات رقابية واسعة للتحقق من سلامة هذا التنفيذ، كوسيلة لكشف الفساد وتحقيق النزاهة المطلوبة:
- فإدارات الدولة ومؤسساتها وهيئاتها، تتبع كل مجموعة منها إحدى الوزارات، ويكون الوزير مسؤولاً أمام مجلس التشريع عن كل أمرٍ يحدث في وزارته.
- ومجلس التشريع هو الذي يشرع قانون الموازنة العامة للدولة، فيحدد كل باب أو بند للإيرادات، وهذه مصدرها المواطنون؛ بحيث يراعي هذا المجلس عدم إرهاق المواطنين أو زيادة أعبائهم. وهو الذي يتولى تدقيق ومناقشة كل بند من بنود النفقات المخصصة للوزارات ودوائرها ومشاريعها، وبالتالي تكون الحكومة مسؤولة أمام هذا المجلس عن سلامة ونزاهة جميع الإيرادات وإنفاق الأموال تبعاً لتخصيصها.
- ولتمكين أعضاء السلطة التشريعية من معرفة ما يجري في الوزارات ودوائرها، فقد نصت الدساتير على وجود ديوان للمحاسبة يتبع المجلس التشريعي، ويرأسه مدير يتمتع بالحصانة حمايةً له من ضغوط الحكومات. وأوجبت على هذا الديوان أن يقدم للمجلس التشريعي تقارير تبين المخالفات المرتكبة، والمسؤولية المترتبة عليها، وآراءه وملاحظاته بشأنها، وذلك بشكل دوري وكلما طلب منه المجلس ذلك.
- وفوق ما سبق، فإن من الطبيعي أن يكون النائب عضو المجلس التشريعي على اتصال بأبناء دائرته الانتخابية. ومن هؤلاء من يعملون في الإدارات المختلفة، ويمكن أن يعرف هذا النائب منهم بما يحدث من تجاوزات وانحرافات، ويكون عليه بعد ذلك التحقق من تلك المعلومات، من أجل القيام بواجبه في هذا المجال عند ثبوت صحتها.
ومن أجل أن يقوم أعضاء سلطة التشريع بواجبهم، فقد راعت الدساتير أن تنص على أن:
- لكل عضو في المجلس التشريعي ملء الحرية في الكلام وإبداء الرأي، ولا يجوز مؤاخذته بسبب أي تصويت أو رأي يبديه، أو خطاب يلقيه أثناء الجلسات.
- لكل عضو في المجلس الحق في أن يوجه إلى الوزراء أسئلة واستجوابات حول أي أمر من الأمور العامة.
و"السؤال" في هذا المجال يعني استفهام العضو من رئيس الوزراء أو الوزراء عن أمر يجهله في شأن من الشؤون التي تدخل في اختصاصاتهم، أو رغبته في التحقق من حصول واقعة وصل علمها إليه، أو استعلامه عن نية الحكومة في أمر من الأمور.
أما "الاستجواب"، فهو يعني محاسبة الوزراء أو أحدهم على تصرف له في شأن من الشؤون العامة.
- كما نصت الدساتير على حصانة برلمانية لعضو السلطة التشريعية، لتسهيل قيامه بدوره كممثل للشعب.
- وفوق ما سبق، فقد أعطت الدساتير لسلطة التشريع سلطة الرقابة والمحاسبة على السياسات الحكومية، وما تصدره من قرارات بشأن الأولويات في توجيه البرامج والخدمات العامة، وحق سحب الثقة من أي وزير في الحكومة، أو حتى سحب الثقة من الحكومة نفسها، ليكون بعد ذلك على الوزير أو الحكومة الاستقالة. بل إن الدساتير تعطي لمجالس التشريع صلاحية التحقيق مع الوزراء، ومحاكمتهم أو إحالتهم للمحاكمة.
- وقد حرصت الدساتير والأنظمة الداخلية لسلطات التشريع على قيام المجلس التشريعي بتشكيل لجان دائمة من أعضائه، ليتناول عمل كل لجنة جانباً من الموضوعات الموكول تنفيذها للحكومة؛ فهناك اللجنة المالية والاقتصادية، واللجنة الإدارية، ولجنة الصحة والبيئة، ولجنة الزراعة والمياه، واللجنة القانونية، ولجنة العمل والعمال، ولجنة الخدمات العامة، ولجنة الحقوق والحريات... إلخ. وتستطيع كل لجنة من هذه اللجان متابعة ما تقوم به الحكومة وإداراتها ومؤسساتها من أعمال وممارسات تدخل في اختصاصها (أي اللجنة)، وأن تطلب التقارير والوثائق وإجراء التحقيقات التي توصلها إلى حقيقة ما يجري، وكشف أي انحراف أو فساد.
- كما أن لمجلس التشريع حق تشكيل لجان تقصي حقائق في كل أمر أو موضوع يثور الشك حول سلامته، والوصول إلى نتائج بشأنه، بما في ذلك المحاسبة عن أوجه الخلل أو إحالة الأمر إلى القضاء.
- ويدخل في صلاحية المجلس أن يسمح للمواطنين بحضور اجتماعات اللجان للاطلاع على عملها، لما في ذلك من تحقيق للشفافية، وكذلك تمكين المواطنين من تقديم أي معلومات لديهم تساعد على كشف أي فساد أو انحراف.
- وتحرص سلطات التشريع الفاعلة على إصدار قوانين توجب على الحكومات عدم حجب المعلومات عن المواطنين والصحافة والرأي العام، بهدف بث الطمأنينة لدى الناس، وتمكينهم من ممارسة رقابة عامة تكشف أوجه الخلل والانحراف التي يمكن أن تحدث داخل الدولة. ذلك أنه لا يوجد في الدولة، أي دولة، نص قانوني جامع مانع يتحدث عن جريمة مسماة "جريمة الفساد"، لأن الأفعال التي تشكل خللاً وانحرافاً في السلوك، ويمكن أن تندرج تحت مسمى الفساد، غير قابلة للحصر. وحتى الآن، فإن القوانين جرّمت أفعالاً بعينها مما يدخل في عداد الفساد؛ مثل الرشوة، واستثمار الوظيفة، والاختلاس، والغش، والتزوير، وإساءة الأمانة، وحددت لكل جريمة منها عقوبة. والباب يظل مفتوحاً أمام سلطات التشريع، كل حسب واقع مجتمعها، لرفع بعض السلوكيات التي أصبحت محل إدانة مجتمعية إلى مستوى الجرائم؛ مثل الواسطة والمحسوبية والمحاباة وغيرها، وفرض عقوبة جزائية لكل منها.
إن ما سبق من صلاحيات ووسائل أعطتها الدساتير لأعضاء سلطة التشريع، تجعل هذه السلطة قادرة على:
- كشف أي تجاوز أو انحراف في تحصيل إيرادات الدولة أو إنفاقها.
- كشف أي استثمار للوظيفة، أو أي ممارسات تنطوي على الإساءة للثقة العامة. ويساعد على ذلك، قيام مجلس التشريع بإصدار قانون "من أين لك هذا؟"، بحيث يوجب على من يتولون المواقع القيادية والمتقدمة في الدولة، وأزواجهم وأبنائهم، تقديم كشوف تتضمن إقرارات دورية بما يدخل في الذمة المالية لكل واحد منهم من أموال عقارية ومنقولة، لمحاسبتهم على أي زيادة في هذه الأموال تثير شبهة جنائية.
- تجريم أفعال معينة بلغ تجاوزها حداً يعتبره المجتمع جرائم، وذلك بجعل هذه الأفعال من خلال التشريع، جرائم مسماة، إضافة إلى تلك المنصوص عليها في قوانين العقوبات.
- وسواء من خلال المعلومات التي يحصلون عليها بشكل شخصي، أو عن طريق اللجان، أو تلك التي يقدمها لهم ديوان المحاسبة، أو الأسئلة والاستجوابات، فإن أعضاء سلطة التشريع يستطيعون كشف أوجه الفساد، بما في ذلك الخلل في إحالة العطاءات، وما تنفقه الدولة على مشاريعها، وما تنطوي عليه التعيينات أو السلوك الوظيفي من محسوبية ومحاباة للأقارب، أو مقابل مصالح معينة أو رشاوى تقدم بهذا الشأن.
وفي هذا الصدد، فإن الدول تحرص على تشكيل أفضل الأجهزة الفنية المتخصصة لتقديم الاستشارات لأعضاء سلطة التشريع، سواء في مجال المال أو الاقتصاد أو الإدارة، أو الدستور والقانون، أو التعليم، أو الطاقة، وغيرها من التخصصات التي يحتاج فيها النائب لرأي علمي أو تخصصي يساعده على تكوين رأيه وتحديد موقفه مما يجري. وأخيراً، فإن المجلس التشريعي الذي يستطيع القيام بكل ما سبق، وتحقيق النزاهة والشفافية وكشف الفساد، يحتاج إلى:
1 - أن تكون الانتخابات للمجلس قد تمت بحرية ونزاهة، وفقاً لقانون انتخاب يراعي مكونات مجتمع الدولة، وبدوائر انتخابية لا يتم تفصيلها استجابة لمصالح عشائرية أو مناطقية أو شخصية؛ قانون انتخاب يشجع الأحزاب على النمو والحصول على مقاعد نيابية من خلال استقطاب الناخبين، انطلاقاً من برامجها وطروحاتها وليس غير ذلك.
2 - قانون أحزاب يسهل تشكيل الأحزاب، ويبتعد عن فرض الشروط والقيود والعقوبات التي من شأنها أن تجعل الحزب يراوح مكانه عاجزاً عن النمو؛ قانون ينص على تقديم الدعم المالي للأحزاب، تبعاً لمعادلات تأخذ بالاعتبار عدد أعضاء الحزب، وعدد الأصوات التي اجتذبها في الانتخابات النيابية والبلدية، وما حصل عليه من مقاعد فيها. إذ إن الوسيلة لصهر المجتمع في بوتقة التنافس على خدمة الوطن وتحقيق مصالحه، هي الأحزاب السياسية التي افتقدها الوطن العربي.
3 - قوانين حريات حقيقية تمكن المواطن من إبداء رأيه شفاهة، أو مكتوباً، أو مسموعاً، أو مرئياً، بدون خوف من رقيب أمني يحصي عليه أنفاسه، ليتم تصنيفه بعد ذلك في عداد غير الموالين للحكم، بما يستتبعه ذلك من مضايقات، وحرمان مما يُقدم للموالين.
4 - قضاء مستقل ونزيه، يتكون من قضاة غير قابلين للعزل، ورئيس قضاء يعتلي موقعه بالأقدمية، أو بالانتخاب، وفقاً لآلية عاقلة عادلة تتوصل إليها قيادات القضاء.