الدولة السعيدة تعثر على مواطن نادر

لا أكتب كثيراً عن "الإمارات"، لأنَّ فكرة الكتابة عن بلد تعيش فيه، تضعك مباشرة في خانة الممالأة، وتجعل شهادتك -في نظر الناس- مبالغاً فيها.
لكن الحادثة التي وقعت هذا الأسبوع، تجعلك لا تطيق صبراً عن الحديث.اضافة اعلان
القصة كالآتي: مواطن عادي جداً يتصل ببرنامج البث المباشر صباحاً، يشكو ضيق الحال (وضيق الحال نسبيٌّ في هذه البلاد). لكنَّ المذيع يتذمَّر من الشكوى. ولا يتفاعل كما يجب مع المواطن. فيصدرُ ولي عهد عجمان أمراً فورياً بإقالة المذيع (وهو مذيع قديم ومعروف وصاحب شعبية كبيرة)، ثم يصدر محمد بن راشد نائب رئيس الدولة أوامره بتلبية كل احتياجات (وأحلام ورغبات) المواطن، ..وفي الصباح التالي يستضيف حاكم عجمان المواطن في قصره، وبعد أيام يستضيف محمد بن راشد، المواطن، ليحضر اجتماع مجلس الوزراء، ويلقي كلمة فيه، ثم يقرر تعيينه بوظيفة رفيعة!
الحدث: مجرد مواطن عادي يشكو، كما يحدث كل ساعة، في كل دول العالم. لكن الإمارات كلها وقفت على رِجل واحدة، لتصبح قضية المواطن قضية البلد بأكمله!
وهذا مفهوم ومُتَوقع عند شعب اختير من أسعد شعوب العالَم، فالحياة هنا مضمونة لكل مواطن منذ يوم ولادته ليوم وفاته، فأنت مكفول طبياً وتدرسُ وتتزوج وتمتلك بيتاً وقطعة أرض على حساب الدولة، بمجرد أن تكون إماراتياً، وهذا نموذج نادر للدول في العالَم، وليس عربياً فقط. أو دعنا لا نتحدث عن "عربياً"، حيث في دول أخرى قد سمع الله صوت الذين يجادلونك في الدفاع عن "الرئيس" قائلين: لم يمت الناس في الغوطة بالكيماوي السامّ، هذا افتراء على سيادته.. كلّهم ماتوا بمجرد قصف مدفعيّ!
بين أن تقرر حكومتك ودولتك أن تكون في خدمتك، وأن تسهر على تحقيق أحلامك، وأن تفهم وظيفتها.. بأنَّها تعمل عندك ولأجلك، وبين أن تسهر على أفضل الخطط لقتلك وسحلك ومحوك من سجل الخَلق، مسافة هائلة قطعها البدويّ بفطرته، وحسّه، وبصيرته، في حين بقي الحاكم الاشتراكي واقفاً يتلهّى بمأساتك!
في الدولة السعيدة يبدو الأمر أشبه بفيلم سينمائي؛ حيث وسط الشعب الهانئ يتم العثور على مواطن نادر، لديه حاجة أو رغبة أو حلم، فتنتبه الدولة كلها أن ثمة تقصيراً ما حدث، وترصد 11 ملياراً لبحث احتياجات العائلات الفقيرة (والفقر هنا نسبيٌّ كما قلتُ لك!).
سيحاججك الناس بأنها دولة نفطية، لكن هذا على وجاهته ليس سبباً مقنعاً، فليبيا أيضاً دولة نفطية!
وثمة دول أخرى تدّعي الفقر لكنها في الحقيقة ليست فقيرة، إنَّما فاسدة.
الفكرة في الإدارة، والنزاهة، وفي فهم "وظيفة الدولة"، بأنها مسؤولة عن الشعب، وليس الشعب هو المسؤول عن الإنفاق على الدولة.. من جيبه الشخصي!
أنا لا أتحدث عن "الإمارات" كبلد، إنَّما كنموذج للحكم الرشيد، لأنَّك إن قارنتها ببلاد عربيةٍ أخرى فالأمر مُتعب، (ولن تستطيع إتمام المقارنة بين دول يفتقد مواطنها للحاجات الأساسية وبين دولة تشتغل على رفاهية الناس بالمعنى الحرفيّ)، وهنا أيضاً سيجادلك الناس بالحديث عن الحريات، فنسأل ما هي الحرية؟
- تلك التي خرج الناس لأجلها في الشوارع العربية.
أليست هي حريتك في المطالبة بضمان حاجاتك، وبالعيش الكريم، واحترامك كإنسان.
فإذا ما كفلت لك شهادة ميلادك كلَّ ذلك، فما هي الحرية؟!
في الحقيقة الأمر جدليٌّ ومبهم.
لكن المحصّلة أنك حين تجد دولة تجاوزت أمر احتياجات مُواطنها منذ وقت طويل، ومشغولة منذ عقود بـ"حاجته من الترفيه والغبطة".. لا تملك إلا أن تشعر بالغيرة والحسد.