الدولة والثقافة

لا يوجد فترة مرت نحن بحاجة فيها إلى مراجعة دور الدولة في الثقافة، أكثر من هذا الوقت. ونقصد بذلك الطريقة التي يعيش بها الناس، والتحولات التي  يشهدها المجتمع، وليس الفهم التقليدي للثقافة المرتبط برعاية أصحاب المواهب والأدباء والمثقفين. كما لا يعني ذلك ممارسة الدولة لإنتاج الثقافة والسيطرة على منابرها، وإنما نعني حجم ما يمكن أن يستثمر من موارد مادية وغير مادية، تقود إلى إصلاح ثقافي يفتح أبواب الدولة والمجتمع لمصفوفة طويلة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية. اضافة اعلان
شهد المجتمع الأردني خلال آخر عقدين تحولات واضحة؛ بعضها ارتبط بعوامل داخلية، وبعضها الآخر بعوامل خارجية انعكست في مسارات التغيير الاجتماعي والثقافي. ولا شك في أن هذه العوامل قد اجتمعت معا في مرحلة انتقالية يمر بها المجتمع، على المستويات الثقافية والاقتصادية والسياسية، بعضها تحولات قاسية. ولا توجد لدينا إجابات عن الأسئلة التي تطرح في هذا الوقت، نتيجة الفراغ الثقافي في التعامل مع هذه التحولات، وما جاءت به من أزمات.
إن المرحلة الانتقالية هي مرحلة طبيعية وضرورية، وتعد بداية للتغيير الإيجابي في الكثير من المجتمعات. وتصاحب هذه المرحلة عادة أزمات وتحديات متعددة، توصف بالحذر، والشك، والريبة، والترقب، والحساسية المفرطة، وتراجع رأس المال الاجتماعي، كما التطرف الاجتماعي والثقافي إلى جانب الديني. ويكمن التحدي الحقيقي في طول هذه المرحلة، وفي قدرة المجتمع والمؤسسات على تجاوزها أو تقصيرها، وتقليل المخاطر التي تشوبها.
في الإطار الثقافي المجتمعي، يلاحظ أنه لم يتطور عمق ثقافي للمشاركة، في البعدين السياسي والتنموي؛ أي لم تبرز تحولات ثقافية يستعيد من خلالها المجتمع المفهوم الحقيقي للمشاركة. فما تزال أشكال المشاركة السياسية والتنموية شكلية في الأغلب كما تبدو في المحافظات، ومتدنية وانسحابية في العاصمة والمدن الرئيسة.
إحدى مشكلات الدولة العربية الحائرة في فوضى خطابات سوء النوايا وحسنها، هي افتقادها القدرة على إدراك قيمة الحل الثقافي في العلاقة بين السلطة والمجتمع، حينما تفجع النخب بأن جذور الاستبداد ومفرختها الأم تكمن في المجتمع، وحينما يجد أولئك الذين أشبعوا السلطة كل ألوان النقد بأن هياكل الدولة الهشة أصبحت تقف يسار المجتمع، وهي التي تقود التغير.
لقد عمل تيار المراجعة النقدية للفكر العربي المعاصر على إسهام جدي في انتقال الخطاب السياسي الفكري من فكرة الثورة إلى فكرة النضال الديمقراطي والإصلاح السياسي؛ فمنذ الربع الأخير من القرن العشرين يكاد يخلو بالتدريج خطاب هذه التيارات من الدعوة إلى التغيير بالعنف. في المقابل، عادت الفكرة الإصلاحية الديمقراطية مرة أخرى تنهل من الحداثة السياسية السائدة في العالم المعاصر، ويحتل الخطاب السياسي الديمقراطي الإصلاحي الحيز الرئيس في الأدب السياسي وفي العمل الميداني لهذه التيارات. لكن فجأة، دُشنت قطيعة هائلة مع هذه الأفكار، وعاد تيار العنف مجددا. بل إن إنجازات التيار النقدي العربي انسحبت من المجال العام، وتكاد اليوم تُهزم من دون أن تدخل معركة حقيقية.
لا أحد يريد أن يعترف بحجم الأزمة الثقافية التي تحياها المجتمعات العربية، وأن هذه الأزمة تقع في القلب من المعضلات العربية، كما أنها أزمة تفسر مصفوفة معقدة من الأزمات الكبرى في الحقول السياسية والاقتصادية والاجتماعية.