الدين والدولة

د. هاشم غرايبة

منذ عرف الإنسان الوجود، وجد الدين وعرفه كضوابط سلوكية ومحددات لحريته في التصرف وفق أهوائه ورغباته.
لذلك لم يتوقف الجدل بين من يعتبره مُسعِداً ومصلحا فيتبعه، ومن يعتبره مقيدا مانعا من ممارسة المتع والملذات فيرفضه.اضافة اعلان
لو ظل الأمر مسألة رأي شخصي ومصلحة فردية لهان الأمر، ولما نشأت نزاعات وقلاقل أدت الى صراعات دامية، لكن أصحاب الأطماع وطلاب السلطة وجدوا فيه خصما لا يهادن، فقد كانت كل تشريعاته مبنية على العدالة والمساواة، ولا تتهاون مع أكل الحقوق ولا نهب مال الآخرين، وهكذا وجدوه متناقضا مع مصالحهم (الليبرالية)؛ أي حريتهم في الاستحواذ على أموال الضعفاء وغير القادرين على صد جبروتهم.
من هنا نشأ الصراع، فالضعفاء والكادحون والمستعبدون اتبعوه، وذوو الجاه والنفوذ مانعوه، ووظفوا قوتهم لمنع انتشاره، وكان من المنطقي أن ينتصر الأقوياء على قلة عددهم النسبية، لولا أن الله أوجد الإيمان مرتكزاً أساسيا للدين وليس المصلحة الشخصية؛ إذ منح ذلك العزيمة للمستضعفين، فصبروا وكافحوا حتى تمكن الدين في الأرض، وبات مستحيلا اقتلاعه.
ولأن الفريق الثاني لا يمكنه الطعن في خيرية الدين وصلاحه، لذا يلجأ أولا الى التشكيك في مصداقية من ينتهجونه، فيبحث عن حلقات الضعف البشري عند بعض من يتبعونه، فيسلط الأضواء عليها فلا يُرى غيرها، ثم يجدها ذريعة للتقليل من قيمة الصلاح الناتجة عن تطبيقه.
مثال ذلك قضية الإرهاب، هم يعلمون أن تلك الأفعال مخالفة لتعاليم الدين، ومن يقوم بها نسبتهم ضئيلة لا تتجاوز 0.000001 % من المسلمين، لكنهم يعممونها لدرجة أن الإرهاب أصبح مسمى إسلاميا بامتياز، مع أن من يرتكبه من غير المسلمين أضعاف تلك النسبة.
كل ذلك لم ينفع في صد الناس عنه، فلم يبق من سبيل إلا عزله وإبعاده عن التأثير في أمور الناس المعيشية، وإبقائه مجرد معتقدات نظرية فردية، وقناعات شخصية، من غير السماح بدعوة الآخرين لاتباعه.
هكذا نشأت فكرة العلمانية، وبذريعة الحريات الشخصية، ولكن لم يكن لها أن تنجح لولا ممارسات الكنيسة الأوروبية، التي احتكرت تفسير الدعوة المسيحية بما يحقق المنافع لطبقة الأكليروس، وليس الى المبادئ السامية للرسالة، لذلك تقبل الأوروبيون فكرة فصل الدين عن الدولة لتخفيف أعباء الاستبداد الكنسي، لأن استبداد العائلات الحاكمة المتحالف مع الإقطاعيين والنبلاء لا قبل لهم بالتصدي له.
في الشرق كان الإسلام دينا متكاملا، عقيدة توحيدية، وأحكاما تشريعية، ومنهاج حياة، وكل ذلك مدون في كتاب لا يشك في صحة كونه إلهيا، لذلك لا دور لرجال الدين في احتكار فهمه، ولا قبل لأحد بتجيير أحكامه لمنفعته، فليس من مجال للاستبداد الديني إلا إن استثمره رجال الحكم وفق أهوائهم.
وهكذا لم تنشأ حاجة لفصل الدين عن حياة الناس، بل على العكس فهو ملتجأ البؤساء ومُحتمى المظلومين، لذا فقد كان الأمر على العكس من الأوروبيين، مطلب التمسك بالدين شعبيا، فيما يعتبره الطامعون والمتسلطون معاديا لمصالحهم.
ربما كان ذلك تفسيرا لفشل العلمانية في العالم الإسلامي، كما يدلل على ذلك أيضا أن العلمانيين العرب ينتمون الى الطبقة البرجوازية، فأغلبهم تلقى علومه في الغرب، وما اعتقاده أن العلمانية هي سر تقدمهم إلا لضحالته الفكرية التي تحصنه من الانبهار بالظواهر.
طالما يتفق علماء الاجتماع على أن المعيار الحضاري للدول هو مدى ارتكازها الى المثل العليا والقيم السامية، ولما كان الدين هو المنشئ الأساسي لها، ويمتلك الآلية التي تديم الالتزام الفردي بها (الإيمان والتقوى)، فلماذا الإصرار على إبعاده عن الدولة (التأثير في حياة الناس)، والذي لن يكون إلا في اتجاه الصلاح؟.
وإذا تحدثنا عن الدين الصحيح، كما بينه الله في كتابه، وليس الدين الذي جسده المُخرج الأميركي المغرض بالنموذج الداعشي، ما الضرر المتحقق على المجتمع من تطبيقه بما أن الدولة الإسلامية مدنية؟
أليس الله بأحكم الحاكمين؟.